أخطأنا جميعا عندما انتظرنا نهاية سعيدة لحنان، على مدار 15 يوم كنا نتابع يوميا ونبحث بين المشاهد عن مشهد واحد تشعر فيه حنان بالطبطبة والطمأنينة، كنا نبحث لها عن فرحة تملأ قلبها المنكسر، عن ابتسامة ترتسم على شفتين ترتعشان طوال الوقت من الخوف والقلق، لكن خذلتنا الأحداث وكانت فى معظمها كئيبة وقاسية، وبدلا من أن نلتقط الرسالة وندرك أننا أمام واقع، وأن ما نشاهده تجاوز مرحلة الدراما بمراحل كثيرة متقدمة، ومرعبة فى معظم الأحيان، لم ندرك أن صانعى العمل قرروا - مع سبق الإصرار - أن يضعونا أمام الحقيقة بقسوتها وبؤسها ومرارتها، تجاهلنا حالة نجوم العمل، فى تجسيد الشخصيات التى فاقت مرحلة الإتقان والإبداع والصدق، تجاهلنا كل هذا الصدق، وكنا مُصرين على أنها مجرد دراما، وانتظرنا فرحة حنان فى الحلقة الأخيرة، نعم حنان سوف تنتصر، تحصل على الوصاية وتحتضن ياسين وفرح وتصير ريسة مركب قد الدنيا، لكن هذا ما ابتعد عنه صناع الدراما منذ اللحظة الأولى، فلو تدبرنا الحالة جيدا، لوصلت رسالة مؤلفىِّ العمل العظمين، شيرين وخالد دياب، هما لا يصنعان دراما، ولا يثيران قضية، هما ينقلان واقعا رفضا تجميله، رغم أن الدراما تسمح باستخدام تلك البهارات التى تضيف نكهات لتنال رضا الجمهور ولتكون نهاية المسلسل سعيدة، أو كما نأمل أن يكون الواقع، لكن السؤال الذى ربما يكون قد طرح نفسه عليهما أثناء الكتابة، هل يمكن أن نخدع المُشاهِد بعد هذه الحالة من الصدق؟! هل يمكن أن نقدم له مشهدا يرضيه ويرسم على وجهه البهجة بينما حنان - فى الحقيقة، وغيرها الملايين من الأرامل - تعيش البؤس والقهر والظلم، لم يختر «آل دياب» الطريق السهل، وأصرّا على توصيل رسالة حنان بكامل قسوتها وبؤسها، أصرّا على أن نعيش معها القهر والذل والظلم، على أن تكتمل الحقيقة، إعمالا بالمثل المصرى: «يا بخت من بكانى وبكا عليا»، فأبكيانا وأبكيا حنان، وجميعا بكى على حنان فى كل ما تعرضت له من مواقف.
حنان كانت الحقيقة الموجعة التى أراد «آل دياب» أن تصل للجميع، واستطاع مخرج العمل العظيم محمد شاكر خضير، أن يقدم لنا نموذجا عربيا فى صناعة الدراما، وكأننا نشاهد فيلما من صناعة هوليوود، ونقل - بإبداعه وإتقانه وموهبته، وبالطبع مذاكرته للعمل - الحقيقة من الورق إلى الشاشة، نقل كل صغيرة وكبيرة فى تفاصيل العمل والنجوم، فكانت الواقعية المرعبة، وكأنها قصة حقيقية يؤديها أبطالها الحقيقيون، فلم نشاهد مشهدا تمثيليا واحدا، بل شاهدنا صدقا وواقعا، كلهم نجوم تلبسوا شخصياتهم، فصاروا هم والشخصيات واحدا، كان الإتقان والدقة والحقيقة والصدق والواقع أبطال كل المشاهد، وأيضا كل تفاصيل صناعة العمل فى الملابس وأماكن التصوير والديكور واللكنة ولغة الجسد والمشاعر، كان الواقع حاضرا بقوة حتى أن تصديق الشخصية والتفاعل معها لم يعد كافيا، بل صار الأمر تعلقا بالشخصيات، وتفكيرا فى المصير ومحاولات للمساعدة، صرنا نبحث بيننا عن «حنان» لنساعدها، صارت تشغل تفكيرنا فلا فنجاهد التفكير فيها حتى تغفل الجفون، صرت أقول لنفسى اهدئى، هذه مجرد دراما وحنان ليست سوى منى زكى، لكن لم يقتنع العقل ولم يطمئن القلب ولم تنته الأحداث بالنهاية السعيدة، بل كانت النهاية واقعية أكثر من كل واقعية أحداث المسلسل.
أما عن منى زكى، فأنا أسأل نفسى إن كان هذا حالنا نحن؟ فكيف كان حالها؟ كيف فكرت وذاكرت وحضرّت؟ هل كانت تنام ليلا دون التفكير فى حنان؟ أم أنها ذابت فى الشخصية واختفت وحضرت حنان فقط؟ إجابة السؤال واضحة فى عبقرية التجسيد، كل تفصيلة فى حنان جسدتها منى زكى وكأنها ولدت «حنان»، الملابس، ونبرة الصوت، وطريقة المشى، واللكنة، الريسة حنان التى جعلت عقلى يستدعى كل أعمالها السابقة فى محاولة مِنِّى لمعرفة متى أصبحت بهذا القدر المخيف من النضج الفنى، ومتى نَمت موهبتها التى يمكن القول - وبمنتهى الثقة - إنها تنافس أكبر وأعظم نجمات العالم، تذكرت الشابة الصغيرة فى «اضحك الصورة تطلع حلوة»، وكيف استطاعت الوقوف أمام العملاق أحمد زكى، وكيف أبدعت أمامه، تذكرت فرح فى «الضوء الشارد» وتجددت مشاعر الغضب من رفيع بيه الذى كان قاسيا عليها فى البداية، متى حدث هذا التطور الذى جعلنا نتعدى مرحلة «إحنا مش بس مصدقينها.. لا احنا عايشينها»؟
كلما انتهت حلقة اسأل نفسى كيف تحملت منى زكى هذا القدر من المشاعر؟ وكيف تحملت كل هذا التضارب؟ كيف تجسد الست القوية والضعيفة والمقهورة والجبارة والحنينة والمتسامحة والقاسية فى نفس المشهد، وبنفس القوة، دون أن نشعر فى مشهد واحد بأنها تمثل؟ الأداء كان منضبطا بالشعرة، كيف استطاعت أن تجعل حنان فردا من عائلة المشاهد، نحمل همها وهم طفليها، نخاف عليهما وعليها، نشعر بالفضل لعم ربيع، ونود أن نرسل له رسائل الشكر، ونشعر بالخوف والضياع لحظة وفاته، نكره صالح، وندعو الله فى صلواتنا للانتقام منه.
كيف تقمص كل نجم فى المسلسل دوره فكانت هذه الحالة الفريدة من العبقرية؟ لم نشعر بأن أحدهم كان يؤدى، جميعهم نفس الشخصية، بداية بياسين وفرح، مرورا بعم ربيع وسناء وإبراهيم وأستاذ زكريا، و وصولا للثلاثى العبقرى، البحرية شنو وعيد وحمدى، جميعهم وصلوا لنفس الصدق ونفس المرحلة من الإبداع.
«تحت الوصاية» كان رسالة قوية وصادمة، استطاع صناعه أن يقتحموا قلوبنا، وكأنهم لجأوا إلى سحر ما، أو سخروا جنيا ليسيطروا على مشاعرنا بهذا الشكل غير المسبوق فى صناعة الدراما المصرية، وبالطبع السحر هنا هو الإبداع والموهبة والاتقان والضمير، والجنى هو قوة الورق وأصحابه «آل دياب» اللذين رفضا الاستسلام للتجميل، وسطرّا الرسالة بقسوتها، والسحر هنا للمخرج العبقرى محمد شاكر خضير، الذى حمل رسالة الورق وأبدع فى نقل هذا الكلام لعالم حقيقى فى كل تفاصيله، والسحر هنا للساحرة الطيبة صاحبة الموهبة الاستثانية والأداء الذى فاق العالمية، منى زكى، التى تلبست الشخصية وذابت فيها، فأبدعت كما لم تبدع من قبل، وكما لم نشاهد إبداعا لغيرها من قبل، وأستطيع القول - ومع كل التقدير لكل نجوم العمل - إن سحرها قد مس الجميع فقدم كل نجوم العمل كل فى دوره ابداعا كما لم يقدم من قبل، فشكرا للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وشكرا لشركات الإنتاج ميديا هب، وشكرا لصاحبىّ الورق «آل دياب»، وشكرا للمخرج محمد شاكر خضير، وشكرا لكل من وقف أمام الكاميرات من نجوم وفنانين، ومن وقف خلف الكاميرات من مبدعين وفنيين، شكرا لكم جميعا لأنكم قدمتم لنا عملا سيكون نقلة فى صناعة الدراما المصرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة