في كوخ بسيط معرش بالجريد وفوالق الشجر والنخيل، يفوح أريجه على أعتاب قرية الشوبك الغربي فى مدينة البدرشين بالكفاح والشقاء والعمل، يجلس عم فكري منهمكًا في عمله، يعافر ويناهد بكل نشاط وحيوية ليحافظ على إرث الأجداد الثمين في صناعة الجريد، يتأمل بدأب وشغف وروح تفيض بالعطاء ما صنعته أنامله من عشرات الكراسي والطاولات، وأمامه "قرمة" من الخشب مثبتة على الأرض، يدق عليها جريدة نخيل من خير موطنه "بلد النخيل"، ممسكاً بأدواته وعدده البسيطة "مطرقة وسكين ومجردة وملقاط"، لتخرج أنماط فنية مختلفة تحكي عن التراث وأصالة الزمن الجميل.
ظلت حرفة صناعة منتجات جريد النخيل صامدة بمراحل تصنيع يدوية خالصة، تحتفظ ببصمات أبناءها من المبدعين، تشكل مصدرًا لرزق الكثيرين، تقاوم بمهارة وحرفية ممتهنيها وأدوات بدائية بسيطة متوارثة لتحافظ على الهوية الريفية رغم تطور الحياة وتقدم العلم والصناعات، لما فيها من أصالة وتاريخ عريق تعود جذوره لآلاف السنين، فرغم ما شهدته من انحسار ملحوظ بفعل منافسة البلاستيك وتقلص العاملون بها طلباً للمعيشة لا يزال الكثيرون يحافظون عليها حتى يومنا هذا، يتوارثونها جيل بعد جيل، ينتجون أنماطاً فنية مميزة من إبداعاتهم وتصاميمهم، ويحققون فيها مزيداً من النفاذ للأسواق المحلية والخارجية.
وبينما كان مسنجمًا في تقطيع وتقليم أعواد الجريد بأنامله التي تعرف خطواتها جيداً وتؤديها بانسجام دون تردد، وتتناثر حوله أدوات بدائية رغم بساطتها لكنها كل ما يعتمد عليها في ممارسة عمله، روى فكري سعد صاحب الـ63 عامًا لـ"اليوم السابع" بداياته مع صناعة الجريد، قائلا: بدأت رحلتي مع صناعة جريد النخيل في إحدى الورش بالقرية -والتي كانت ومازالت يرتبط اسمها كغيرها من قرى البدرشين بزراعة النخيل وصناعات الجريد- منذ أن كنت في الـ12 من عمري.
وتابع عم فكري: "لم استكمل تعليمي وكان توجهي في الأساس نحو البحث عن أي مهنة حرفية أتعلمها وأواصل مسيرتي فيها، لم أعرف حرفة سواها، تعلمتها وتعلقت بها ومع مرور الوقت أتقنتها حتى أصبحت رائداً فيها واستقليت بنفسي وفتحت ورشتي الخاصة، موضحًا: "تخصصت في بداية عملي في صناعة أقفاص الخضروات والفاكهة والطيور وبعد أن كبرت في العمر اتجهت إلى الفنيات وتصنيع الأعمال التي تتطلب إتقان وحرفية أكثر كالكراسي والترابيزات، حتى أصبح عملي مقتصراً عليهما".
واستطرد: "نعتمد بشكل أساسي على ما تنتجه قرى البدرشين خاصة "الشوبك والمرازيق وسقارة وميت رهينة" من الجريد في موسم الحصاد، والذي يبدأ من شهر سبتمبر وينتهي في شهر أكتوبر من كل عام، مشيرا إلى أن سعر الجريد "عدد 1000 جريدة" يتراوح ما بين 1000 و1500 جنيه تقريبًا.
وعن مراحل التصنيع، قال عم فكري: "يعتبر تليين الجريد فى الهواء، -مشيراً بإصبعه نحو عشرات الأعواد المتراصة بانتظام أمامه جنبًا إلى جنب-، أولى خطوات التصنيع، حيث تترك لتلين نحو 10 أيام في فصل الصيف و20 يومًا في فصل الشتاء تقريبًا، ثم تعقبها مرحلة تقطيع الجريد لأطوال مختلفة وتقشيره وتنظيفه باستخدام السكين وتقسيمه إلى رقائق باستخدام الساطور، موضحًا: "الكرسي الواحد بشتغل فيه 12 مقاس مختلفين، القصير والطويل، الطويل باحتاجه للتكيات والقوايم والقصير بحتاجه لمقعد الكرسي، تقطيع الجريد وتخريمه مش بيتم عشوائي، أي غلطة الكرسي ما يركبش، فالكرسي الواحد بياخد في تركيبه حوالي 25 جريدة".
وبينما كان يظهر براعته في تكوين أجزاء كرسي كان قد بدأ في تركيبه منذ دقائق معدودة، تابع عم فكري حديثه قائلاً: "بمهارة ذهنية ويدوية عالية تأتي مرحلة الدق والتثقيب، حيث نستخدم مسمارً نحدد من خلاله أماكن التثقيب ثم نستخدم شاكوشًا خشبيًا ندق من خلاله على ما تم تحديده من علامات تتباعد عن بعضها البعض بمسافات دقيقة، حتى يتم صنع فتحات صغيرة بأجزاء الجريد المقطعة، وبعدها نقوم بتجميع الأعواد المجهزة وتركيبها لتشكيل الكراسي، بداية من الأرجل فالقاعدة فالحامل".
وأشار عم فكري إلى أن مرحلة التليين هي ما تسهل عليهم أعمال الصنفرة والتقطيع والتثقيب والتركيب، "لازم الجريدة تستوي الأول و"تطقطق" علشان الكرسي لما يطلع ما يخسش، الجريدة لازم تاخد أسبوعين شمس في البداية ولما يتصفى منها المياه وتلين نبدأ نخرمها".
عمل شاق يقوم به عم فكري وحده يوميًا في ورشته، دون كلل أو ملل، محتفظًا بمهنته التي عشقها منذ طفولته وحرص على أن يحافظ عليها ويواصل عمله بها لأكثر من خمسين عامًا حتى وإن تراجع الطلب عليها: "أنا شغال لواحدي، بنزل الورشة يوميا من الساعة 8 وبصلي العصر وأروح، وبحكم سني دلوقتي ممكن أصنع كرسيين في اليوم، بصنع واركن ولو الزبون طلب أي كمية بأنواعها ومقاساتها بعملها، وببيع الكرسي الواحد بـ175 جنيه، شغلي بيطلب في البدرشين والقرى المحيطة وحلوان ووصل كمان للإمارات بس الشحن كان أغلى من ثمن الكرسي نفسه بثلاثة أضعاف".
وأشار عم فكري إلى أن مهنة صناعة منتجات الجريد بكل ما فيها من مراحل تحتاج إلى حرفي يمتلك يقظة ذهنية وخبرة ومهارة فنية وقوة عضلية؛ للوصول إلى منتج عالي الإتقان والجودة، "أنا شغال بآلة حادة، لو سرحت واتشتت تركيزي ولو للحظة ممكن أجرح إيدي واعرض نفسي لأذى".
"ماليش إلا هي وما قدرش أشتغل غيرها".. بهذه الكلمات اختتم عم رشاد حديثه قائلا: "عندي 9 أبناء، 7 بنات وولدين، الحمدلله اتجوزا ولسة معايا ولد وبنت بإذن الله نجهزهم قريب ونجوزهم.. الحمدلله إني لسة قادر أكمل وأكافح، ولو كان في العمر بقية هكمل شغل وكفاح، ولو عمري انتهى في أي لحظة الحمدلله.. قضيت الرسالة".
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
صناعات جريد النخيل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة