نجاحات كبيرة حققتها الدبلوماسية المصرية، على مدار 50 يوما، منذ بدء اندلاع أزمة قطاع غزة، تجلت في العديد من المراحل، أولها عندما سعت إلى تعزيز ثوابت القضية الفلسطينية، وتقويض الدعوات المشبوهة التي تبناها الاحتلال الإسرائيلي، لتهجير الفلسطينيين، بهدف حرمان الأرض من أهلها، بينما نجحت في مرحلة لاحقة في تحويل التنافر الدولي وانقسام العالم بين معسكرين أحدهما داعم للاحتلال وآخر للحق الفلسطيني إلى كتلة واحدة يجمعها التوافق حول الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، والمساعدات الإنسانية، وصولا إلى الدعوة العالمية لوقف إطلاق النار وإدانة الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال.
ولعل الهدنة التي تحققت في نهاية المطاف أحد أبرز النتائج الأولية للجهود التي بذلتها الدولة المصرية، في إطار صفقة تبادل الاسرى، والتي تمثل محورا رئيسيا للاتفاق الذي تم التوصل إليه، بينما يجرى العمل على تمديده في اللحظة الراهنة، من أجل حماية سكان غزة، وحقن دمائهم، بعد أسابيع طويلة من القصف المتواتر والذي أسقط آلاف القتلى، معظمهم من النساء والاطفال.
ويعد الحديث عن صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بمثابة أحد أهم المحاور التي تجسد نجاعة الدبلوماسية المصرية، وهو ما يبدو في العديد من المسارات، ربما أبرزها السوابق التاريخية، حيث سبق للدولة المصرية القيام بهذا الدور في صفقة الافراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في عام 2011، مقابل تحرير مئات الفلسطينيين من سجون الاحتلال، بينما يقوم المسار الاخر على الثقة الدولية في قدرة مصر على القيام بهذا الدور، وهو ما يمثل نقطة تحول مهمة في تعزيز قدرات القاهرة على تحقيق التوافق، سواء فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية أو الضغط من أجل الهدنة تمهيدا لوقف إطلاق النار، خاصة أن عددا من الأجانب ومزدوجي الجنسية بين الأسرى المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية.
وتمثل الثقة الدولية، نتيجة رئيسية لنزاهة الموقف المصري منذ لحظة اندلاع العدوان، وهو ما بدا في تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مناسبات عدة، وأهمها خلال قمة "القاهرة للسلام"، عندما أكد حرص مصر على حماية المدنيين من كل الأطراف، في انعكاس صريح للثوابت التي سعت الدولة إلى تعزيزها، سواء فيما يتعلق بالقضية برمتها، باعتبارها أولوية مصرية وإقليمية، أو في غزة، في ضوء القصف الوحشي والمتواتر على القطاع.
الثقة الكبيرة في مصر لم تقتصر على مجرد المواقف الرسمية التي تبنتها الدول، خاصة في الغرب، وانما اصطبغت بصبغة شعبوية، تجلت في مظاهرات عدة في العديد من عواصم العالم للمطالبة بما تنادي به مصر من حقن للدماء وتوقيف آلة القتل الإسرائيلية، بل وامتدت إلى معقل حكومة الاحتلال في تل أبيب عندما تظاهر ذوى الأسرى أمام السفارة المصرية للمطالبة بالتدخل الفورى للإفراج عن ذويهم.
نجاح صفقة تبادل الأسرى هو تجسيد حقيقي لنجاح الدبلوماسية المصرية في إدارة الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، بينما يعكس بجلاء امتلاكها لمفاتيح الحل، خاصة وأن هذا الملف تحديدا يحظى بصبغة عالمية، بسبب ارتباطه بمصالح العديد من الدول التي يحمل أعداد من المحتجزين جنسياتها، وهو ما يمثل ورقة مهمة لحشد العالم في إطار توافقي من شأنه تحقيق الأمن والاستقرار عبر تمديد الهدنة والوصول إلى وقف شامل لاطلاق النار، وهو ما يفتح الباب أمام مفاوضات أوسع وأشمل لا تقتصر في جوهرها حول غزة وإنما تمتد إلى القضية، عبر مشاركة واسعة سواء من جانب أطراف الازمة أو المجتمع الدولي، في إطار من التعددية التي نجمت مصر في إرسائها عبر تعاملها مع العدوان، والتي تمثل نقطة انطلاق لخطوات أهم في المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة