للنازيين وجوه عدة، وللطغاة تواريخ وحوادث قابلة للاستنساخ.. هذا ما تعكسه الحرب الوحشية التي تقودها قوات الاحتلال الإسرائيلي تجاه المدنيين العزل في قطاع غزة ، والتي حصدت أرواح ما يزيد علي 12 ألف شهيد ، وعشرات الآلاف من المصابين فقط خلال شهر ونصف الشهر من قتال.
الحرب الدائرة في قطاع غزة كانت محور نقاش لزوار متحف الملكة صوفيا الوطني للفنون بالعاصمة الإسبانية مدريد الذين أبدوا تعاطفاً واضحاً مع أطفال القطاع ، وأدانوا ممارسات الاحتلال برغم قلة رأت أن لإسرائيل "الحق في الدفاع عن النفس"، مدفوعين في ذلك بإعلام مسموم ، يعتمد الانحياز لتل أبيب نهجاً ، ولا يري في معاناة نساء غزة وأطفالها ما يكفي من للتعاطف.
لوحة جرنيكا في متحف الملكة صوفيا بمدريد
ومع تزايد الزوار ، وبالتزامن مع جولة أجراها اليوم السابع للمتحف ، كان الاهتمام بلوحة الفنان العالمي بابلو بيكاسو ، "جرنيكا" خاصاً ، لما تعكسه اللوحة من قصة صمود لا تقل عما يعانيه أهالي غزة في الوقت الحالي ، وتجسد نضال لا تقل حدته عما تبديه المقاومة الفلسطينية علي مدار ما يقرب من 7 أسابيع.
فما أشبه الأيام التي تلت السابع من أكتوبر بقطاع غزة، بأيام أبريل 1937 بمدينة جرنيكا الإسبانية، التي نالت من أرواح المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال، مثل ما نال جيش الاحتلال الإسرائيلي من شهداء فلسطين المحتلة منذ عقود، بلا وجه حق.
3الزوار يلتفون حول الصورة
"جرينكا" المتصدرة جدار الغرفة 206 بمتحف الملكة صوفيا الوطني للفنون بالعاصمة الإسبانية مدريد، بطول يتجاوز الثلاثة أمتار، وعرض يقترب من الثمانية، يزدحم أمامها الآلاف يوميًا بعد قرار السلطات الإفراج عن حظر تصويرها، للتحديق في الجدارية التي دائمًا ما تأتى مصاحبة لحوار مناهض للحرب حول العالم، وضاغطة بقسوة على جرح قتل مدنين أبرياء لا ذنب لهم، لتعلن لمن يراها أنها عمل فنى تجاوز حدود البلدة الإسبانية لتصبح رمزًا لإدانة الحرب التي لا ينتصر فيها إلا الموت والخراب، والتي لا عزاء فيها للإنسانية.
وتعود قصة لوحة جرنيكا إلى مشهد من مشاهد الحرب الأهلية الإسبانية، والتي وكل فيه الفاشى فرانشيسكو فرانكو، حلفاءه أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، بمواجهة أشرس أعداءه في الحرب الأهلية التي كان الجمهوريون والديمقراطيون واليساريون يواجهونه فيها، وعهد إليهم بمحو البلدة الصغيرة بمن عليها، فقاموا بقصف جوى، استخدموا فيها أعتى أنواع الطائرات الحربية، وألقوا القنابل الحارقة على حشد من النساء والأطفال، ذهب رجالهم للمشاركة في الحرب ليخلف ما يقدر بنحو 1800 قتيل أو جريح أو مفقود و 65٪ من المباني مدمرة ، ولم يترك الدمار سوى أكوام من الأنقاض، ومن حاول الفرار اخترقته نيران القنابل الحارقة ليعيش ما تبقى من عمره مشوهًا.
هناء أبو العز أمام اللوحة
ولم تكن "جرنيكا" مجرد وحي ألهم الرسام العالمى بابلو بيكاسو، بل نتاج ريشة جسدت مشاهد جريمة ضد الإنسانية، وصمت مرتكبها بالعار لعقود طويلة، رغم محاولات نظام الجنرال الفاشي على مدى 40 عامًا بالقاء اللوم على طيران الجمهورية و على الشيوعية العالمية من خلال دعاية مستمرة و كاذبة على مدى كل هذه السنوات للاستهلاك المحلي، و الأشنع كان في اجبار الناجين من هذا القصف على الاعتراف إن الطائرات كانت روسية و فرنسية، بالظبط كما فعلت إسرائيل حين قصفت مستشفى الأهلى المعمدانى، وعادت لتتهم الفصائل الفلسطينية بارتكاب هذه الجريمة التي تقع تحت إطار الإبادة الجماعية، إلا أنه و في عام 1980 زار الرئيس الألماني مدينة جيرنيكا، و معه وثيقة اعتذار رسمي باسم حكومته معترفًا بوحشية ذلك التدمير الذي نفذه سلاح الطيران النازي.
وبعد مرور عام على دوران الحرب في إسبانيا، كان التحضير لمعرض باريس العالمي على أشده، وتطلعت الحكومة الجمهورية الإسبانية إلى من يعبر عنها بالجناح الاسباني، وبيكاسو إسباني المولد أشهر الفنانين في العالم كان يعيش في باريس منذ عقود، فأرسلت وفدًا مع طلب رسمي يدعوه إلى المساهمة، لكن بيكاسو كان مترددا في البداية بسبب اعتبارات فنية وذاتية، واعتذر عدة مرات، و مرات أخرى كان يمزق محاولاته، حتى فاجعة جيرنيكا ، حينها غضب بيكاسو وانفعل أمام قسوة و وحشية هذا التدمير و القتل الجماعي، ومن ثم بدأ العمل في لوحته .
كانت ملهمته فى هذا الوقت المصورة الفوتوغرافية دورا مار صاحبة الأفكار اليسارية المتطرفة المتحمسة لقضية الجمهورية الاسبانية، و كانت كما العديد من شباب ذلك الجيل الذي ناهض النازية و الفاشية التي كانت تنخر عظام أوروبا، ساعدت بيكاسو كثيرًا وصورت كل لحظة من إنجازات اللوحة.
وتحول مرسم بيكاسو في باريس إلى ملتقى الشعراء والفنانين أثناء رسم اللوحة، وبعد أسابيع قليلة انتهى من رسم لوحة رمادية أثارت في نفسه نوعًا من الهذيان، وقبل نقلها إلى الجناح الإسبانى في المعرض الدولى، اتصل بكل أصدقائه الذين شهدوا مراحل ولادة الجرنيكا، وطرح فكرة تلوينها لكن معظمهم احتجوا واتهموه بفقدان عقله، لكن بيكاسو ركب عناده، وحتى يحسم الامر ، أرسل في شراء العديد من الورق الحريري بكل ألوانه المتوفرة في السوق و أعطى لكل واحد منهم مقصًا لقص الالوان وفقًا لحجم أفكار اللوحة، و بدأ بعد ذلك بتلصيق ورق الحرير الملون على سطحها الهائل الحجم، و صعق الجميع بالنتيجة، فاللوحة تحولت من عمل فني مرهف الحس يهدف إلى عكس مآسي الحرب و شرورها إلى عمل يشبه اعلانات السيرك الشعبية، فنزع بيكاسو القصاصات لتخرج اللوحة إلى المعرض العالمي وهى مازالت رطبة الألوان في معظم أجزائها لتتوسط في جناح اسبانيا صورة كبيرة للشاعر فيديركو جارثيا لوركا الذي كان من اول ضحايا الفاشية في اسبانيا من جانب، ومن الجانب الاخر قصيدة بول إيلوار عن جرنيكا .
وانتهى المعرض في سبتمبر 1937 لتبدأ بعدها جرنيكا مغامرات السفر إلى معظم الدول الأوروبية تحمل على عاتقها مواجهة انتشار الفاشية السريع في هذه البلدان، حتى في إيطاليا التي كان يحكمها موسوليني الذى تزعم الحركة السوداء، و استمرت على مدار سنتين في سفر و عرض دائم ، الأمر الذى أرهقها وأصاب قماشها بجروح عديدة، و قرر بيكاسوا إعادتها إلى باريس لتستريح، لكن القوات النازية كانت على مشارف باريس و على استعداد لغزوها في اي لحظة معتبرينها عدوًا حربيًا ووعدوا تدميرها حال القبض عليها، فاضطر الفنان تهريبها إلى لندن لتواصل نشاطها الدعائي ضد الفاشية و النازية، و بقيت هناك حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومع احتمال سقوط لندن اضطر الفنان تهريبها من جديد، و هذه المرة إلى بعيد، إلى نيويورك حيث استقبلها متحف الفن الحديث لهذه المدينة، و احتفظ بها كجوهرة، تتجول الولايات المتعددة في هجرة دائمة مع نشيدها المعادي للحروب، حتى أنهكها الترحال، فمنع الفنان نقلها إلى أي مكان أخر باستثناء اسبانيا حين تعود الديموقراطية مرة أخرى، و استقرت في متحف نيويورك لأكثر من 15 عاما تستقبل زوارها بهدوء المحارب المتعب، لتعود أخيرًا بعد عودة الديموقراطية إلى اسبانيا في عام 1981 .
واختلفت الأقوال والتفسيرات حول أفكار ومكونات الجرنيكا، لكن الأغلبية اجتمعوا على أن الصراخ الخارج من اللوحة يشرح بوضوح تفسير اغتيال الحرب للحياة بوجود أربع نساء، وطفل واحد، وثور، وحصان، وطائر، وتمثال المحارب، ومصباح كهربائى، فظهرت النساء يصرخن ويبكين ويندفعن، وتحمل إحداهن طفلها الرضيع قتيلًا تبكيه وتنتحبه في مشهد ليس ببعيد عن واقعنا الحاضر، ويقف فوقها ثور واسع العين قاسى الملامح يمثل الحرب، وحصانًا متألمًا جدًا مع وجود فجوة كبيرة في جانبه، وكأنه قد طُعن برمح، ويتمدد تحت الحصان جندي ميت ويده التابعة لذراعه اليمنى المقطوعة تحمل سيفًا محطمًا، بينما يظهر أعلى الحصان من جهة اليمين امرأة خائفة، تراقب المشهد من خلال نافذة وتحمل بيدها مصباحًا مضاءً باللهب ومثل الحصان المحتضر، يرمز موت الطفل بين ذراعَي أمه إلى معاناة الأبرياء.
وجاءت تفسيرات أخرى أشارت إلى أن الحصان يرمز الى الشعب الاسباني والثور يشير للعنف، أما الجندي المتوفي فيعبر عن الهزيمة والمصباح يشير للسلام أما المرأة التي تحمل الطفل المتوفي تشير للضحايا.
لم يكن بيكاسو يعلم أن جداريته المحاربة، ستظل لقرون طويلة، رمزًا يستخدم فى مناهضة الحرب، وقتل الأبرياء، ودعوة مستمرة للسلام، لكنها أيضًا أصبحت وكأنها رسمت من أجل غزة وسكانها الذين يبيدهم الاحتلال الاسرائيلى أطفالًا وشيوخًا ونساء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة