في ورشة صغيرة بسيطة الطراز والهيئة، تقع على أطراف قرية الناصرية في مدينة العياط، تمتلئ بعبق الأصالة والتاريخ الذي يفصلها عن صخب الحداثة والتجديد، يجلس فناناً خمسينيًا أمام فرن ملتهب دون أن يكترث لشدة الحرارة وشقاء العمل، ممسكًا بأنبوب حديدي ينفخ به الزجاج المتوهّج وبمهارة وخفة أنامله يشكل منه تحفًا فنية، وكأنها لوحة فنية فريدة تحافظ على حرفة يدوية عريقة تأبى الاندثار بصناعة متقنة وقطع مبهرة.
31 عاماً من العمل الشاق قضاها محمود رشاد البالغ من العمر 50 عاماً، في تصنيع وتشكيل الزجاج يدويًا، والتي تعود جذورها إلى العصر الفرعوني، خشية عليها من خطر الانقراض الذي تواجهه لقلة محترفيها ودخول الميكنة فيها والتي أصبحت الصناعة اليدوية منها نادرة، حيث بدأ رحلته معها سنة 1992م ومع مرور الوقت تعلمها واحترفها حتى تفرد بصناعتها في محافظة الجيزة ونال شهرة كبيرة وذاع صيته في مصر وخارجها.
وبينما كان جالساً أمام فرنه البلدي المصنوع من الطوب، منسجماً في تشكيل وتصميم زجاج منصهر خرج لتوه من بين ألسنة النيران، روى محمود رشاد لـ"اليوم السابع" عن بداياته في مهنة تصنيع الزجاج، قائلا: "تعلمت المهنة في إحدى الورش منذ أن كنت في الـ21 من عمري، بدأت فيها كصبي يكسر الزجاج وينظفه ومع مرور الوقت تعلمت المهنة واحترفتها، وفتحت ورشتي الخاصة بعد مرور نحو سبع سنوات على عملي في الورشة، محتفظا بطريقة التصنيع اليدوية التقليدية".
يوم شاق يقضيه محمود رشاد في ورشته يوميًا، يبدأ من بعد صلاة الفجر ويستمر حتى صلاة العصر، ينهي خلالها منتجات زجاجية متنوعة ما بين أكواب وأطباق وأباريق وتحف مختلفة أشكالها، حسبما مطلوب منه، فيقول: "تصنيع الزجاج بالنسبة لي ليس مهنة فحسب بل هو فن من طراز خاص، احترمه وأقدره بل وأعشقه، فلا يهمني ما قد أواجهه من تعب أو مشقة بل كل ما يهمني أن يكون عملي مميزاً وأنجزه بالجودة والكفاءة المطلوبة"، مشيرا إلى أنه يأتي إلى ورشته فجر كل يوم برفقة ابنه ومساعده ويواصلون عملهم حتى العصر، ينتجون خلالها نحو 100 قطعة زجاجية مختلفة الطبيعة والتصميم.
"تصنيع الزجاج" ليس مهنة بل فن وإبداع وقدرة على الخيال، هكذا عبر "رشاد" عن حبه لمهنته، قائلاً: "اللي حببني في المهنة الأجانب وانبهارهم اللي كنت بشوفه في عينيهم وهم بيتفرجوا على منتجاتنا، من هنا حبيت المهنة واتشجعت إني أطور من نفسي واعمل أشكال جديدة ومختلفة.. المهنة نفسها تتحب في فكرتها "ازاي أعمل حاجة من الا شيء".. ازاي قطعة زجاج وعجينة أقدر أشكلها بالشكل اللي أنا عاوزه".. هي مش مهنة هي فن، واللي هيعتبرها مهنة بس مش هيقدر يشتغلها، لأنها بتعتمد في الأساس على الفن والخيال والإبداع وبتحتاج لدقة وصبر وعزيمة وقوة تحمل"، مشيرًا إلى أنها لا تخلو من المصاعب والمخاطر كالتعرض للحروق أو الجروح نتيجة التعامل مع الزجاج فضلاً عن المكوث لساعات طويلة أمام أفران شديدة الحرارة.
مراحل عديدة يمر بها الزجاج حتى يصبح قطعًا متكاملة قابلة للاستخدام دون أن تكون الآلة شريكة في صنعها، فتعتمد على أدوات تقليدية أساسها الفرن البلدي وكسر الزجاج بالإضافة إلى ثلاث أدوات تستخدم في تشكيل الزجاج المنصهر هي "المربع، والماشة، والمقص"، بالإضافة إلى أسطوانة مفرغة يتم من خلالها التقاط المادة المنصهرة التي تصبح زجاجاً فيما بعد، علاوة على أدوات أخرى لكل منها استخدامها الخاص، يقول محمود رشاد: "نعتمد في عملنا على نوعين من بقايا الزجاج "المكسور أو المهشم"، وهما الزجاج المسطح كبواقي الطاولات والأبواب والشبابيك، وزجاج المشروبات الغازية والأدوية، موضحًا أنهم يفرزون الزجاج المجمع كل لون على حدة، ثم يقوموا بغسله وتنظيفه وتجفيفه لتهيئته لعملية الصهر، أي "إعادة تدوير".
وواصل حديثه قائلاً: تبدأ مراحل تصنيع الزجاج بتسخين الفرن حتى يصل درجة حرارته نحو 1300 درجة مئوية، وبعدها نضع الزجاج المهشم داخله نحو ساعة ونصف حتى ينصهر ويصبح كالعجين، ويمكننا حينها تطويعه، ثم تلتقط كرة ذائبة على طرف ماسورة ليبدأ نفخها وتشكيلها كيفما يريد مع إعادة تسخين هذه الكتلة للحفاظ على مرونتها والتلويح بها في الهواء حتى يتشكل المقاس المراد، وبعد انتهاء مرحلة التشكيل، تأتي مرحلة التبريد، ويتم فيها ترك المنتج في الفتحة الأخرى من الفرن لليوم التالي حتى يتماسك ويصبح جاهزًا للعرض"، موضحًا أن لون القطعة المشكلة يتم تحديده بعد مرحلة الصهر، فإذا كان المطلوب زجاج أزرق اللون، يتم وضع كسر زجاج أبيض اللون في الفرن ويضاف له بعد صهره أكسيد الكوبالت، وإذا كان المطلوب زجاج تركواز اللون فيتم في هذه الحالة إضافة أكسيد النحاس".
معظم منتجات محمود رشاد تصدر إلى خارج مصر والجزء الآخر يوزع على محافظات الجمهورية السياحية، "أغلب المدن التي تقوم بشراء المنتجات الزجاجية التي نصنعها هي المدن السياحية مثل شرم الشيخ ودهب والغردقة"، حيث أن ما يزيد عن 70% من إنتاجنا يعتمد بشكل أساسي على السياحة"، لافتاً إلى أن في الفترة الأخيرة بدأت العديد من المطاعم تستغني عن "الشغل" المعتمد على القوالب الجاهزة وتطلب المنتجات المصنوعة يدويًا لاستخدامها في تقديم المشروبات والمأكولات كونها صحية أكثر عن المعتمدة على القوالب الجاهزة، موضحاً: "اللي بيشتغل بالقوالب الجاهزة أول ما بيشتغل فيها، بيشتغل ببودرة ويضيف ليها كيماويات علشان يقدر يصنع بيها، لكن الشغل اليدوي صحي وصديق للبيئة عن طريق إدخال كسر الزجاج في الفرن مرة ثانية في درجة حرارة عالية جدا وبالتالي بيتم حرق الكيماويات مرة ثانية حتى تكاد تكون معدومة".
"شغلي لف كل دول العالم، سافر ألمانيا وهولندا وغيرهم"، بهذه الكلمات تابع "رشاد" حديثه، مؤكدًا أن الأجانب يفضلون المنتجات الزجاجية المصنوعة يدوياً عن المصنوعة بالقوالب الجاهزة، مشيرًا إلى أن صناعة الزجاج بالطريقة اليدوية يعد صديقًا للبيئة بحسب تعبيره، كونه يعتمد الآن في الحرق على الغاز بدلا عن المازوت، كما يعتمد على بقايا الزجاج، والمواد الأوكسيدية غير الضارة، التي تمنحهم ما يحتاجونه من ألوان.
وأشار إلى أن مهنة صناعة الزجاج اليدوي في طريقها للانقراض لأسباب عدة، أهمها أن الأجيال الجديدة لا تقوى على الجلوس لساعات طويلة أمام الفرن وتحمل ما يبعثه من حرارة عالية جدا، كما أن الأجيال الجديدة تبحث عن ما هو أسهل ويحقق لهم ربحًا أسرع، فضلا عن أنه ليس من السهل تعلمها، فالأمر يستغرق سنوات، منوها بأنه حرص على أن يعلم نجليه الجامعيين المهنة حتى يكملا المسيرة من بعده.
النفخ في الزجاج
تشكيل الزجاج وصناعته يدويًا
تصنيع وتشكيل الزجاج في ورشة محمود رشاد
تصنيع وتشكيل الزجاج في ورشة محمود رشاد
تكشيل الزجاج بعد عملية الصهر
صناعة الزجاج يدويًا في الجيزة
صناعة الزجاج يدويًا
صناعة الزجاج
صناعة وتشكيل الزجاج
صناعة وتشكيل الزجاج
صناعة وتشكيل الزجاج
صهر الزجاج المكسور في الأفران
كسر الزجاج قبل تشكيله
محمود رشاد
محمود رشاد
محمود رشاد صانع الزجاج
محمود رشاد صانع الزجاج
محمود رشاد صانع زجاج
محمود رشاد يبدع في تشكيل الزجاج يدويًا
مراحل تصنيع الزجاج
مراحل تصنيع الزجاج
مراحل تصنيع الزجاج
مراحل تصنيع الزجاج
مراحل تصنيع الزجاج
ورشة صناعة الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
منتجات الزجاج
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة