ربما ساهمت التطورات الأخيرة في تحقيق قدر كبير من الزخم للقضية الفلسطينية، وذلك بعد محاولات دولية حثيثة لتقويضها، عبر تجميد الأوضاع تارة، من خلال سياسات التسويف التي تبنتها القوى الكبرى، والتي ساهمت إلى حد كبير في عدم تحقيق اختراقات كبيرة في الوصول إلى حلول الوضع النهائي، وفي القلب منها "حل الدولتين"، أو مخططات الفوضى، التي بدأت مع انطلاقة العقد الماضي، خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي"، تارة أخرى، والتي لعبت دورا كبيرا في زيادة المخاوف الأمنية، لدى دول المنطقة، والتي ساهمت في تحويلها إلى ساحة حروب بالوكالة، جراء تصاعد الصراعات الإقليمية بصورة كبيرة، وزيادة حدة الاستقطاب، فتراجعت القضية أمام تهديدات الإرهاب التي سادت إلى الحد الذي سيطرت فيه الميليشيات المسلحة على مساحات واسعة من الأراضي، بينما أصبحت العديد من الدول تحت "نير" التقسيم والانقسام.
إلا أن حالة الاستقرار الإقليمي، إلى جانب استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، التي وصلت إلى حد الجرائم، والتي تجلت في أبهى صورها في الحرب التي تشنها حاليا آليات الاحتلال، والتي وصلت إلى حد استهداف المستشفيات والمدنيين، ساهمت إلى حد كبير في عودة القضية إلى قمة الأجندة الدولية، وهو ما ينبغي البناء عليه، ليس فقط لوقف إطلاق النار، والذي يمثل أولوية مرحلية قصوى، وإنما أيضا لتحقيق اختراقات أكبر، تتجسد في تأسيس الدولة الفلسطينية، على حدود الرابع من يونيو لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، باعتباره الأساس الذي يقوم عليه "حل الدولتين"، خاصة وأن التطورات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن حالة الاحتقان وصلت إلى ذروتها، وأنه تحقيق هذا الهدف يعد بمثابة الضمانة الحقيقية لحقن الدماء من الجانبين، ودحض أي تصعيد محتمل في المستقبل.
وهنا تصبح المهمة الرئيسية لقمة "القاهرة للسلام 2023"، والمقرر انعقادها السبت، ليس فقط الوصول إلى وقف إطلاق النار، وتحقيق التهدئة، وإنما أيضا ضمان عدم تكرار حملات التصعيد العنيفة مجددا، في إطار بناء مستقبل آمن ومستقر لجميع الأطراف، وصولا إلى صيغة للحل النهائي في إطار تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ولكن يبقى التساؤل حول الكيفية التي يمكن الحفاظ بها على حالة الزخم التي استعادتها القضية، بفضل حالة التوافق الإقليمي التي تحققت، إثر تراجع حدة الفوضى من جانب، ثم المستجدات الأخيرة، التي شهدها قطاع غزة، والتي وضعت العالم أمام وضع حرج إنسانيا وأخلاقيا، على خلفية الانتهاكات المرتكبة من قبل قوات الاحتلال من جانب آخر.
ولكن يبقى التساؤل الذي يثور في اللحظة الراهنة يدور حول الكيفية التي يمكن بها الحفاظ على "أولوية" فلسطين، على الأجندتين الدولية والإقليمية، وذلك لدفع "بوصلة" العالم نحو التحول الجاد للوصول إلى حلول بعد سنوات المماطلة والتسويف، التي راوحت خلالها القضية مكانها دون أي تقدم ملموس، خاصة وأن الأوضاع الدولية الراهنة، وما تمثله من تهديد لأمن الدول واستقرارها في الداخل، باتت تساهم دورا بارزا في تغيير سريع في "دوائر" الأولويات، على غرار حقبة "الربيع العربي" على النحو سالف الذكر، بالإضافة كذلك إلى الأوضاع في أوكرانيا، وما تمثله من تهديد مباشر لأمن الغرب، وفي القلب منه أوروبا.
في الواقع، تبدو الكرة في ملعب طرفي الأزمة، فالجانب الإسرائيلي لم يعد ممكنا بالنسبة له التعويل على الدعم الغربي، في ظل التهديدات التي تواجهه، خاصة مع الزيادة الكبيرة في المساعدات التي تقدمها دول أوروبا لأوكرانيا، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والصعود الكبير لقوى المعارضة في الداخل، والتي تحاول تصويب سهام الانتقاد لحكوماتها، جراء مواقفها السياسية المنحازة، وهو ما بدا أولا في أوكرانيا، بينما تجلى بعد ذلك مع التصعيد في فلسطين، وهو ما يعني أن انتهاكاته وإن شهدت دفاعا "خطابيا" من قبل مؤيديه، إلا أنه ربما لن يستمر كثيرا في ظل ما تتسبب فيه من حرج للحكومات سواء أمام شعوبهم في مواجهة المعارضين، أو أمام المجتمع الدولي في ضوء حالة الازدواجية التي ظهرت بجلاء في التعامل مع الملفات الحقوقية والإنسانية.
بينما تبقى فلسطين في مأزق الانقسام، حيث تبقى الحاجة ملحة لاتخاذ خطوات أكثر جدية لتحقيق المصالحة في اللحظة الراهنة، في إطار العديد من المعطيات، أبرزها وحدة الهدف بين السلطة والفصائل الفلسطينية، في مواجهة آلات الاحتلال العسكرية وانتهاكاته التي تقشعر لها الأبدان، وهي الأرضية التي يمكن البناء عليها عاجلا، من أجل تحقيق خطوة "الوحدة" بين الفلسطينيين، تحت مظلة السلطة الشرعية.
ولعل الانقسام يمثل أحد أكبر المعوقات التي منعت تحقيق أي تقدم ملموس على مدار القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، حيث ساهم في إضعاف الجبهة الداخلية، وتشتيتها، ليصبح الاحتلال المستفيد الأكبر، في ظل توجيه عداء الفلسطينيين لأنفسهم من جانب، بينما ساهم في تقويض قدرة المفاوض الفلسطيني في خوض معاركه الدبلوماسية، جراء الأوضاع الداخلية المهترئة، والتي قدمت للاحتلال والقوى المؤيدة له ذرائع الالتفاف حول الشرعية، ومهدت له الطريق لمواصلة "التسويف" فيما يتعلق بالحل النهائي.
الدولة المصرية ربما قرأت الأحداث مبكرا، عندما تبنت نهجا يعتمد على "بناء الحوار" بين الفصائل الفلسطينية، عبر تنظيم "اجتماع العلمين"، والذي سعت من خلاله لجمع الفلسطينيين معا على مائدة الحوار، دون تدخل من قبل أي طرف أخر، لمناقشة الخطوات التي يمكن اتخاذها لتحقيق المصالحة، باعتبارها المرحلة الأهم لتحقيق تقدم في القضية برمتها.
وهنا يمكننا القول بأن الاحتفاظ بـ"أولوية" القضية الفلسطينية مرتبطا بخطوات داخلية، تعكس رغبة الفلسطينيين أنفسهم في الاستفادة من حالة الزخم التي ارتبطت بالأوضاع الأخيرة في غزة، والتي دفعت إلى انعقاد مؤتمر "القاهرة للسلام" المقرر عقده السبت، والذي يمثل امتدادا لجهود مصرية خالصة في خدمة القضية، بحيث تتجاوز النتائج المرجوة مجرد وقف إطلاق النار والتهدئة، وصولا إلى حلول الوضع النهائي، وتحقيق "حل الدولتين".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة