ذهب حسن العشماوى، العضو العامل بجماعة الإخوان الإرهابية، وأخو حرم منير الدلة أحد قيادات الجماعة، إلى منزل مستر كريزويل، الوزير المفوض بالسفارة البريطانية، فى الساعة السابعة صباحا، ثم عاد لزيارته أيضا فى نفس اليوم فى مقابلة دامت سبع ساعات، بدأت من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشرة من مساء نفس اليوم.
كان اللقاء فى 10 يناير، مثل هذا اليوم، عام 1954، وجاء فى توقيت مفاوضات ثورة 23 يوليو 1952 لجلاء الاحتلال البريطانى عن مصر، وحدث اللقاء من وراء ظهر الثورة، وكان ضمن سلسلة لقاءات سابقة بين جماعة الإخوان وبريطانيا، كشف عنها مجلس قيادة الثورة فى بيان له أصدره بعد قراره بحل الجماعة، على أثر قيام عناصرها بتحويل حرم جامعة القاهرة إلى ساحة حرب بالاعتداء على معارضيهم بالكرابيج والعصا يوم 12 يناير 1954.
تعرض البيان إلى مواقف الجماعة داخليا وخارجيا، ومن ضمنها اتصالاتها مع الإنجليز، واعتبر البيان أن لقاء 10 يناير 1954 حلقة ثانية تكمل الحلقة الأولى، التى روى تفاصيلها الدكتور محمد سالم، فما هى الحلقة الأولى.. ومن هو محمد سالم؟
يذكر بيان مجلس قيادة الثورة، أنه فى شهر مايو 1953: حدث اتصال بين بعض الإخوان والمرشد، وبين الإنجليز عن طريق الدكتور محمد سالم، الموظف فى شركة النقل والهندسة، وعرف جمال عبدالناصر من حديثه مع حسن العشماوى فى هذا الخصوص أنه حدث اتصال فعلا بين منير الدلة وصالح أبورقيق ممثلين عن الإخوان، وبين مستر إيفانز المستشار الشرقى للسفارة، وعندما التقى عبدالناصر، المرشد، أظهر له استياءه من اتصال الإخوان بالإنجليز، ومناقشة القضية الوطنية معهم، الأمر الذى يدعو إلى تضارب القول وإظهار البلاد بمظهر الانقسام.
يضيف البيان، أنه لما استجوب الدكتور محمد سالم عن موضوع اتصال الإنجليز بالمرشد ومن حوله، قال: إن القصة ابتدأت فى وقت كان وفد المحادثات المصرى جالسا يتباحث رسميا مع الوفد البريطانى «مباحثات الجلاء»، وفى إبريل 1953 جرت اتصالات لتمهيد مقابلة بين مستر إيفانز المستشار الشرقى للسفارة البريطانية، وبعض قادة الإخوان، وأنه «أى محمد سالم» أمكنه ترتيب هذه المقابلة فى منزله بالمعادى بين منير الدلة وصالح أبورقيق، وإيفانز، وتناول الحديث موقف جماعة الإخوان من الحكومة، وتباحثوا فى تفاصيل القضية المصرية ورأى الإخوان فيها وموقفهم منها، ثم قال محمد سالم: إنه فى رأى قادة الإخوان أن عودة الإنجليز إلى القاعدة البريطانية فى القناة وقت خطر الحرب تكون برأى لجنة مشكلة من المصريين والإنجليز، وأن الذى يقرر خطر الحرب هى هيئة الأمم المتحدة، ولعل هذا هو «السبب فى تمسك الإنجليز بهذا الرأى الذى لم يوافق عليه الجانب المصرى فى المفاوضات».
يذكر الكاتب الصحفى عبدالله إمام، فى كتابه «عبدالناصر والإخوان المسلمون»، أن هذه الاتصالات كانت موضع مناقشة فى محكمة الشعب، التى حاكمت الإخوان فى قضية محاولة اغتيالهم جمال عبدالناصر فى ميدان المشية بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954، واتضحت كثير من الحقائق حولها: فالبكباشى عبدالمنعم عبدالرؤوف قابل أيضا موظفا بسفارة أجنبية وأخبره بأنه يتحدث باسم الإخوان ومرشدهم، وأنهم سيتولون مقاليد الحكم فى مصر عنوة، وأنهم يطلبون تأييد هذه السفارة للانقلاب الجديد، والإخوان على استعداد بعد تولى الحكم الاشتراك فى حلف عسكرى ضد الشيوعية، لأن الإسلام يحضهم على ذلك، وأن هذا الحلف لن يتحقق ما دام عبدالناصر على قيد الحياة.
كانت هذه الاتصالات تتم من وراء ظهر قيادات الثورة، ووفقا للاستراتيجية البريطانية التقليدية فرق تسد، التى تهدف إلى اكتساب وسيلة للتأثير على النظام الجديد فى سعيه لتحقيق مصالحه، حسبما يذكر كتاب «التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، تأليف مارك كورتيس، ترجمة كمال السيد، ويكشف كورتيس فى كتابه عن أنه فى ملفات لوزارة الخارجية البريطانية، مذكرة لاجتماع عقده مسؤولون بريطانيون والإخوان فى 7 فبراير 1953، قام خلاله شخص اسمه أبورقيق بإخبار المستشار الشرقى للسفارة «إيفانز» بأنه «إذا بحثت مصر فى كل أرجاء العالم عن صديق، فلن تجد سوى بريطانيا».
يضيف «كورتيس»: فسرت السفارة البريطانية فى القاهرة هذا التعليق بأنه يكشف عن وجود مجموعة داخل قادة الإخوان مستعدة للتعاون مع بريطانيا، حتى وإن لم تتعاون مع الغرب، ويرد فى ملاحظة مكتوبة بخط اليد فى هذا الجزء من مذكرة السفارة: إن هذا الاستنتاج له ما يبرره على ما يبدو وهو يدعو للدهشة، كما تلاحظ المذكرة أن الاستعداد للتعاون ربما ينبع من تزايد نفوذ الطبقة الوسطى فى الإخوان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة