بالعبارات الجارحة، تراشق الجنرال «منو»، قائد قوات الاحتلال الفرنسى لمصر، والجنرال «هتشنسن» قائد الحملة الإنجليزية، التى وصلت إلى الإسكندرية يوم 8 مارس 1801، وتبعه الجيش العثمانى لإجبار القوات الفرنسية على الخروج من مصر، وهو ما حدث يوم 14 يوليو 1801 بالجلاء عن القاهرة، ثم حصارهم فى الإسكندرية، فدخل منو فى مفاوضات مع القائد الإنجليزى للجلاء عنها أيضا، بما يعنى الجلاء عن مصر نهائيا.
حدث التراشق بعد التوقيع على اتفاقية الجلاء فى 31 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1801، ونصت الاتفاقية على أربعة بنود، يذكرها الدكتور محمد فؤاد شكرى فى كتابه «الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر»، وهى نقل جيش منو بأسلحته وعتاده وأحد عشر مدفعا فقط من مدافع الميدان إلى فرنسا، والفراغ من تسليم الإسكندرية خلال العشرة أيام التالية حتى يتسنى ترحيلهم بمجرد استعداد السفن للإبحار، أما فيما يتعلق بلجنة العلوم والفنون، فإنه يمتنع على أعضائها أن ينقلوا معهم شيئا من القطع الأثرية القديمة، أوالمخطوطات العربية أوالرسوم والمصورات أوالمذكرات أوالمجموعات الفنية والعلمية، بل يتركون ذلك كله تحت تصرف القواد والرؤساء الإنجليز،
كان البند الرابع المتعلق بالفنون والعلوم سببا للتراشق بين «الجنرالين»، والمثير أن التراشق كان حول مقتنيات مصرية تصارع الاثنان على الاحتفاظ بها، ويشير إلى ذلك «ج. كريستوفر هيرولد» فى كتابه «بونابرت فى مصر»، ترجمة فؤاد أندراوس، مراجعة الدكتور محمد أحمد أنيس، قائلا: «إن الاتفاق تم التوقيع عليه فى الإسكندرية، ودعا «منو» «هتشنسن» إلى طعام قوامه لحم الخيل، وكان توقيع اتفاق دون جدل واحتداد، شيئا لا يستطيعه «منو»، وهو ما حدث، حيث تراشق الاثنان حول المجموعات التى يقتنيها العلماء، وفى عدة آثار من بينها «حجر رشيد» الذى زعم «منو» أنه ملك خاص له، أما «هتشنسن» فطالب بها تنفيذا لبنود الاتفاق.
كان «منو» على استعداد للتنازل عن هذه المجموعات، لكن العلماء أعلنوا أنهم يؤثرون أن يتبعوها إلى إنجلترا على أن يسلموها، واستمر تعليق القضية عدة أيام، حتى بعث «منو» خطابا إلى «هتشنسن» قال فيه: «أحطت علما بأن نفرا من أصحاب المجموعات يريدون أن يتبعوا ما جمعوا من حبوب ومعادن، وطيور، وفراشات، وزواحف، إلى حيث يريدون شحن أقفاصها، ولست أدرى هل يرغبون فى أن يحنطوا هم أنفسهم لهذا الغرض، ولكنى أؤكد أننى لن أمنعهم إن راقتهم الفكرة، وقد أذنت لهم بأن يخاطبوك فى الأمر».
سمح الجنرال «هتشنسن» للعلماء بالاحتفاظ بمجموعاتهم، ولكنه أصر على أخذ «حجر رشيد» إلى إنجلترا، وعدم تركه للفرنسيين مهما كانت الظروف، وحسب «هيرولد»، فإن «منو» ترك «الحجر» عن كره، وكتب للجنرال الإنجليزى: «إنك تريده يا سيدى الجنرال، ففى وسعك أن تأخذه ما دمت أقوانا، ولك أن تنقله متى شئت»، وهكذا انتقل حجر رشيد إلى لندن، ليظل فى متاحفها، يذكر «روبير سوليه» فى كتابه «مصر ولع فرنسى» ترجمة لطيف فرج: «بدءا من 2 سبتمبر 1801، بدأ انسحاب جيش الشرق، واصطحب الفرنسيون معهم جثمان كليبر الذى أخرجوه من قبره، كما حملوا جزءا من الكنوز التى جمعها علماؤهم، أراد الإنجليز مصادرة كل شىء، وجرت مناقشات عنيفة فى هذا الشأن»، ويذكر عبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»: «لما جاء دور تسليم مقتنيات أعضاء المجمع العلمى ولجنة العلوم والفنون، احتج أولئك الأعضاء على حرمانهم ثمرة أبحاثهم وجهودهم واكتشافاتهم، وأوفدوا ثلاثة منهم وهم «جوفروا سان هيلير، وسافيتى، ودليل» لمقابلة الجنرال هتشنسون لإقناعه بالعدول عن هذا الشرط، فرفض طلبهم، فأجمعوا رأيا على الامتناع عن تسليم تلك الكنوز العلمية، وأنذروا القائد الإنجليزى بإحراقها بدلا من التفريط فيها وتسليمها، وأبلغوه بأنهم يلقون على عاتقه تهمة حرمان العلم من هذه النفائس فى حالة إصراره على طلبه، فبهت القائد الإنجليزى أمام هذا التهديد، وقبل مكرها أن يتنازل عن نفاذ هذا الشرط وترك لهم مقتنياتهم، بيد أنه منعهم من أخذ العاديات التى أرادوا تهريبها معهم، وحجزها بحجة أنها ملك مصر، لكن مصر حرمت منها ونقلها الإنجليز إلى بلادهم وزانوا بها متاحفهم، ومن هذه الآثار حجر رشيد الموجود فى المتحف البريطانى».
يؤكد «سوليه» أن باريس لم تشهد هذا الحجر إلا مرة واحدة فى عام 1972، حين أحضر إليها بمناسبة مرور 150 عاما على اكتشاف شامبليون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة