انتهى جمال الدين الأفغانى من جلسته على المقهى، حيث كان كعادته «يتناول النشوق بيمناه، ويوزع الثورة بيسراه»، اصطحب خادمه الأمين «أبوتراب» فى طريق العودة إلى البيت، وفجأة وجد نفسه مقبوضا عليه، وحجزه فى «الضبطية»، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من كتابه «عصر إسماعيل»، مضيفا: «لم يتمكن حتى من أخذ ثيابه، وحُمل فى صباح 24 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1879 فى عربة مقفلة إلى محطة السكة الحديدية، ومنها نقل تحت المراقبة الشديدة إلى السويس، وإلى باخرة أقلته إلى الهند، وسارت به إلى بمباى».
يذكر تلميذه الإمام الشيخ محمد عبده فى مذكراته: «قطع المسافة بقميص واحد على بدنه، والوقت صيف والحرارة شديدة حتى تقرح جسده، ولم يكن معه من النقود أكثر من ثلاثة جنيهات عثمانية وقروش من الفضة، وهذا المبلغ أخد منه فى السويس، ولما علم ذلك أحمد بك النقاوى، قنصل إيران فى السويس، ذهب لتوديعه وعرض عليه مبلغا وافرا من المال، فأبى أن يأخد منه شيئا، وفى اليوم الثانى من سفره، ذهب بعض تلامذته إلى بيته، فوجدوا بعض أعوان الضبطية يعبثون فى كتبه، فدهشوا ورجعوا، وكان عنده كتب كثيرة فى فنون شتى، فاختار منها أعوان الإصلاح وحفظة الأمن ما اختاروا لأنفسهم، وحشوا بالباقى بطون الصناديق، وأرسلوها إلى بندر «أبوشهر» من بلاد إيران، ظنا منهم أن صاحب الكتب ذهب إليها، وبقيت الكتب فى مخزن الجمرك هناك إلى أن أكلها العث هنيئا مريئا».
يتعجب محمد عبده مما حدث، لأنه وقع قبل أيام من قول الخديو توفيق على مسمع من الحاضرين للأفغانى: «أنت موضع أملى فى مصر أيها السيد»، ويؤكد محمد عبده: «الانزعاج بنفى السيد جمال الدين كان عاما، والكدر كان تاما، ولكن الخديو أظهر سروره مما فعل، وتحدث به فى محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار فى رمضان، فأظهر الطرب بذلك من كان لا يعرف لنفسه قيمة فى العلم والفضل فى محضر السيد جمال الدين، وأُلزمت الجرائد بنشر الأمر الصادر بالنفى، وفيه من التقريع الشديد ما لم يكن يستحقه الرجل، كما أنه كان فيه تشنيع جارح بمن كانوا يجتمعون عليه، فنشره البعض وأبت إحدى الجرائد نشره، لأن محررها كان من تلامذته فعُطلت».
يذكر الرافعى، أن الحكومة بررت فعلها بقولها: «الأفغانى يسعى فى الأرض بالفساد، وأنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا، وحذرت الناس من الاتصال بهذه الجمعية»، ويشير أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى، فى مذكراته: «أنشأ الأفغانى محفلا ماسونيا ضم إليه تلاميذه، وبلغ عدد المشتركين فيه نحو ثلاثمائة، بينهم الأمير توفيق ولى العهد»، ويؤكد الدكتور حسن حنفى فى كتابه «جمال الدين الأفغانى- المئوية الأولى»: «أنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنسى لتحويل الماسونية الغربية إلى حركة وطينة مصرية، وانضم إلى المحفل عدد بارز من المصلحين والمفكرين المصريين من تلاميذه ومريديه من العلماء والوجهاء، وجزع توفيق من تحويلها إلى حركة وطنية مصرية».
يعطى «شفيق باشا» صورة عما أحدثه الأفغانى من حراك فكرى وسياسى، بعد أن جاء إلى مصر لأول مرة فى مارس 1871 أثناء حكم الخديو إسماعيل، قائلا: «كان العامة فى ذاك العهد يعتقدون أن الحاكم هو السيد المطاع، فأراد جمال الدين بخطبه الملتهبة وبياناته المتطرفة تغيير هذه العقلية، وقبيل خلع الخديو إسماعيل خطب فى الإسكندرية قائلا: «أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟.. لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟».
يعلق شفيق: «بهذه الجرأة المدهشة، كان الرجل يخطب ويتحدث، ولم يكن للناس عهد بمثل هذا، فكانوا يسحرون بمنطقه ويدهشون له، وكان سامعوه يذهبون بعد سماعه إلى مجالسهم الخاصة فيتحدثون بما سمعوا لجلسائهم وأقربائهم، مما جعل النفوس تتنبه قليلا، وتلتفت إلى علاقة الحاكم بالمحكوم وواجب كل منهما نحو الآخر، وتنفى عن الأذهان عقيدة الحق الإلهى فى الحكم وتبحث عن تصرفات رجال الحكومة وتنقدها». يؤكد شفيق، أنه حين تولى توفيق الحكم فى 26 يونيو 1879 خلفا لوالده إسماعيل، استمع إلى آراء الأفغانى الإصلاحية وقربه منه، ويقول محمد عبده: كان وكلاء أرباب النفوذ فى مصر يظنون أن محرك أفكار الإصلاح وباعث الأنفس على طلب الحرية ووضع أصول للنظام، إنما هو السيد جمال الدين الأفغانى، فتقدموا إلى الخديو بإقامة الأدلة على خطر الرجل وأخافوه منه، فقرر نفيه، ويقول شفيق باشا: «هذه الناحية عملت فى نفس توفيق أشد مما عملت الدسائس الأخرى، لأنها لمست موضع الخوف على العرش، فوافق على نفيه، بعدما كان بينهما من صداقة وود».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة