استطاع فيلم كيرة والجن كسر كل القواعد الجاهزة والقوالب المصمتة في السينما، فهو لم يلعب على السائد منذ بداية إعلان أن الفيلم من بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز ونجوم آخرين، كل من البطلين يحمل تاريخه بطولات سينمائية منفردة وناجحة جدًا، لذلك غامرت جهة الإنتاج بميزانية ضخمة ليظهر هذا العمل للنور، كذلك راهن صناع العمل على موضوع غير تقليدي في السينما، وبه جزء من المغامرة الكبيرة جدًا فالفيلم يحكى عن المقاومة المصرية للاحتلال الإنجليزي قبل وأثناء وبعد ثورة 1919، مغامرة كبيرة تحسب لصناعه، وتمهد طريقًا لم يكن مرصوفًا منذ سنوات طويلة أمام عجلة السينما وتمنحها وقودًا جديدًا ينعش محرك الإنتاج في طرق أرحب وأوسع، لم يكتف العمل بمنح السينما وقودًا جديدًا، وإنما أيضًا منح التاريخ خيالاً إضافيًا، فالفيلم يمزج ببراعة شديدة بين ما هو تاريخي وحدث بالفعل، وبين ما هو من مقتضيات الدراما، فالشخصيات الأساسية في الفيلم تنطلق من عباءة الواقع لتحلق في خيال المؤلف، فأحمد عبد الحي "كيرة" مناضل حقيقي كما ذكره التاريخ، لكن ليس بهيئة ولا مواصفات كريم عبد العزيز الذي لعب دوره، وعبد القادر شحاتة الجن الذي لعب دوره أحمد عز لم يكن في الواقع صاحب كأس وسيجارة، وصوره بعد ثورة 1952 ظهرت كم هو شخص متزن، وكذلك نجيب الهلباوي شخصية حقيقية لعب دوره سيد رجب، لم يكن ينتهي به المطاف في الواقع كما انتهى به في الفيلم.
ستجلس أمام الشاشة الكبيرة في السينما وتكتشف عن أن ثلاث ساعات مرت دون أن تشعر، وهي زمن الفيلم المليء بالتشويق والإثارة والمعارك المصنوعة بشكل جيد جدًا يلائم العصر الذي تدور فيه من مائة عام تقريبًا، وهذا يجعلنا نستمتع بالتفاصيل المنتمية لهذا العصر بمقاوميه وفتواته تحت قيادة مخرج واعٍ لكل التفاصيل ودقيق للغاية وهو المخرج مروان وحيد حامد، وقد تعمدت أن أكتب اسمه ثلاثيًا لتعرفوا من أين استقى الدقة وشرب الصنعة؛ وحيد حامد، والذي تم إهداء العمل لروحه.
فريق العمل المكون من مروان حامد وأحمد مراد وكريم عبد العزيز لم يكن جديدًا عليه أن يقدم أعمالاً قوية فقد قدموا من قبل الفيل الأزرق بجزأيه الأول والثاني، الإضافة القوية هنا هو أحمد عز الذي أرى أنه يجتهد ويطور أداءه بشكل مذهل يشهد على ذلك مشهد وفاة والده في الفيلم الفنان القدير أحمد كمال.
ما لفت نظري أيضًا في السيناريو هو تقديم شخصيات المحتل الإنجليزي أو الأجنبي بشكل غير كاريكاتوري، فقد تم تقديم شخصية الضابط هارفي بشكل جيد وبناء محكم للشخصية، ما جعله ليس مجرد عدو، وإنما الشرير الذي يخطط ويفكر بشكل قوي، ومن المعروف إنه كلما كانت شخصية شرير الفيلم قوية، كان الفيلم جيدًا، لأنه يخلق صراعا لأبطاله وتحديًا كبيرًا.
شكل كريم عبد العزيز وأحمد عز ثنائيًا رائعًا، خاصة أن المناوشات كانت قائمة بين الشخصيتين من أول الفيلم لنهايته، وهذا ما خلق روح من الدعابة والتحدي كلما ظهر معًا، وجاء تقديم فريق المقاومة بشكل جيد أيضًا في السيناريو، وإن عاب السيناريو بعض الأحيان عدم تكثيف اللحظات الصعبة ولحظات الموت والفراق، وتحول بعض الشخصيات كان سريعًا ومباغتًا ولم يتم التأسيس له بشكل كافٍ.
التصوير والموسيقى والمونتاج لأحمد المرسي وهشام نزيه وأحمد حافظ من أفضل عناصر الفيلم بجانب الإخراج، علاوة على أداء غني بالتفاصيل من أبطال العمل فتألق كريم عبد العزيز وأحمد عز وهند صبري وسيد رجب وأحمد مالك وهدى المفتي ورزان جمال، وأحمد عبد الله محمود الذي لعب دور الفتوة باقتدار كبيرة حتى في اختياره لنبرة الصوت.
أنا سعيدة بشكل كبير بهذا العمل الملحمي الذي يفتح آفاقًا جديدة للسينما المصرية في التفتيش عبر التاريخ عن السير والملاحم لأبطال شعبيين، وسعيدة أيضًا لأن الفيلم فتح شهية الجيل الجديد ليعرف أكثر عن تاريخ بني وطنه، فقد كان جمهور السينما من المراهقين والشباب الصغير يصفقون بحرارة مع نجاح كل عملية كان يقوم بها الوطنيون الذي يقاومون احتلال الإنجليز لبلادهم، هذا الفيلم الرائع معزوفة منوعة ولحن جديد في موسيقى وطنية عزفها الشعب المصري عبر تاريخه الممتد من النضال ضد كل من حاولوا السيطرة على مقدراته.
في النهاية أقول بكل فخر: ما أجمل السينما حين تكون ممتعة وهادفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة