حصد "اليوم السابع" الجائزة الأولى في مجال القصة الإنسانية بجائزة مصطفى وعلى أمين الصحفية، فاز الزميل أحمد يعقوب رئيس قسم الاقتصاد بجريدة اليوم السابع، بجائزة القصة الإنسانية عن "قلعة موسى"، فى مسابقة مصطفى وعلى أمين الصحفية عن الأعمال المنشورة فى عام 2021.
وأعلن مجلس أمناء جوائز مصطفى وعلى أمين الصحفية الفائزين بعد إنهاء عمل اللجان المحايدة من فرز الأعمال المقدمة التى بلغت 371 عملا صحفيا فى مجالات التحقيق الصحفى والحوار الصحفى والقصة الانسانية والصورة الصحفية والمالتى ميديا والاخراج الصحفى وجائزة مخصصة لشباب الصحفيين.
و"اليوم السابع" يعيد نشر القصة الفائزة في المسابقة:
حب من طرف واحد يصنع المستحيل.. سخرت منه حبيبته فحقق حلمه فى 70 سنة
خطوات ومسارات الأقدار مرسومة بدقة، من قبل الخالق، ومن فوق 7 سماوات.. نحن نسير فقط إلى أقدارنا.. قليل منا من يتأمل رسائل القدر التى تمر علينا فى مشاهد وتفاصيل الحياة اليومية، وعندما ينتبه العقل والقلب إلى تلك الرسائل وهى تلمس أوتار الإحساس والأوجاع بداخلنا، ونتدبر معانيها، نتحرك بإيجابية، ونعيد صياغة مفردات الحياة ونفهم معانى الوجود وحقيقة الكون، وواجب الإنسان ورسالته الفطرية وهى "عمارة الأرض".. "قلعة موسى"، تحمل مفردات قصة حب وبحث عن الذات، وصناعة القيم الملهمة لأجيال مقبلة، من أعلى جبال لبنان، وفى أحضان اللون الأخضر والطبيعة الخلابة والمرتفعات الشاهقة.
فى اليوم الأول من بداية فصل الشتاء رسميًا، وتحديدًا يوم 21 ديسمبر من العام الأصعب 2020 والتى ضربت خلال شهوره جائحة "كورونا" العالم، وأثرت سلبًا على عشرات الآلاف من أنشطة الأعمال، وأضرت بقطاع السياحة الذى يعتمد عليه اقتصاد لبنان، كان اللقاء الذى ساقتنى إليه الأقدار إلى "قلعة موسى الجميلة" أعلى جبال لبنان.. ومن رحم هذه الأزمة الصحية الدولية التى يمر بها العالم، تولد الإشارات والرسائل التى لا بد أن نلتقطها ونتأمل معانيها لاستكمال مشوار الحياة وكفاحها، بشكل أفضل وأكثر إيجابية وبروح تؤكد أن لكل حدث يمر بنا، ومهما بلغت صعوبته، لا بد وأن هناك شمسًا تشرق من جديد ونهارًا يحمل حماس البدايات والإصرار على تحقيق الحلم.. من الممكن أن تكون قصة "قلعة موسى" معروفة للبعض، ولكن آثرت أن أرويها بعينى وعقلى وقلبى وإحساسى الداخلى، ورؤيتى الشخصية لرسائل وإشارات ملهمة، قد تغير حياة آلاف البشر إلى الأفضل.
قلعة موسى ومنطقة بيت الدين فى لبنان
الحلم ووضوح الأهداف.. الإصرار والعمل الدؤوب والطموح المتقد لتحقيق الغايات.. إخلاص وإيمان شريك العمر ورفيق الدرب برسالة الزوج، وقيمة تكامل وتعاون الرجل والمرأة.. استغلال الفرص المتاحة والسعى للتعلم المستمر.. عدم الندم على شىء مضى أو فقدته.. الأقدار والإيمان بأن خطواتها مرسومة بدقة ونحن نسير فقط إليها.. صدق النوايا يحقق الغايات ويفتح خزائن الرزق والبركة فى الحياة وترتب لصاحبها أجمل الأقدار.. تلك هى الرسائل الـ7 التى تلخص 4 ساعات قضيتها بين أروقة وأجنحة وجنبات "قلعة موسى" الساحرة بقصتها المثيرة والملهمة وإبداعها المذهل، لأسجل خلالها تفاصيل رحلة العمر، والأعمال الفنية المدهشة، وإبداع الفنان والبناء اللبنانى "موسى المعمارى" بالصوت والصورة.
و"قلعة موسى"، بناء دقيق ومدهش فى تفاصيله، وأيقونة معمارية ولوحات فنية من الجمال الأخاذ لمجسمات التماثيل التى تحتوى على مشاهد من الحياة الريفية اللبنانية، وبنيت بأحجار لا يشبه تصميم كل حجر الآخر، وتقع أعلى تل مرتفع بنحو 800 متر فوق سطح البحر، فى مشهد هادئ هو الأروع، فى مكان بين منطقتى "دير القمر" و"بيت الدين" فى "قضاء الشوف" أحد أقضية محافظة جبل لبنان، والتى تبعد عن العاصمة اللبنانية، بيروت، نحو 40 كيلومترًا بالسيارة.
صورة موسى المعمارى
ولد موسى عبد الكريم المعمارى عام 1931 فى لبنان، لأسرة فقيرة، وتوفى وهو من الأثرياء بإبداعه وإصراره وقصته الملهمة فى يناير 2018، عن عمر ناهز الـ87 عامًا، وامتدت مسيرته الإبداعية لنحو 70 عامًا، ليشيد قلعة أصبحت معلمًا ومزارًا سياحيًا هامًا فى لبنان الجميلة، يقصده السياح من كافة دول العالم، حيث تحتوى القلعة على أكثر من 150 تمثالًا ومجسمًا من الشمع ومواد أخرى، بالحجم الطبيعى ومقتنيات من الأحجار الكريمة والثمينة والمعادن، وتجسد محتويات القلعة صورًا ومشاهد تحكى تفاصيل الحياة اليومية الريفية البسيطة والتراث اللبنانى خلال القرنين الـ19 والـ20 مما جعل من العمل رؤية عميقة لشخص تألم وهو صغير، وإبداع حقيقى وأيقونة معمارية، حيث تقع القلعة على مساحة نحو 3500 متر مربع و4 طوابق و30 غرفة وقاعة، وتحتوى أيضًا على 28 ألف قطعة من مقتنيات من الأسلحة بمختلف أنواعها، من الخناجر والبنادق والمسدسات والتى جمعها من شتى بقاع الأرض، حيث كان "موسى المعمارى" يهوى جمع الأسلحة.
وعند مدخل القلعة كتب "موسى" عبارة رائعة وملهمة تلخص رحلة العمر والحلم، هى "دخلنا شبابًا وخرجنا شيبًا"، وعبارة أخرى عند باب الخروج من القلعة هى "حسب نواياكم ترزقون"، وعلى جدران القاعات الداخلية للقلعة، صورًا تجمع زيارات رؤساء وفنانين وشخصيات عامة من شتى بقاع العالم لتلك القلعة، إلى جانب عدة تكريمات من جهات لبنانية ودولية.
مر على مخيلتى وأنا أتحدث إلى زوجة موسى المعمارى، ونحن "على أرض لبنانية"، وأنا ألمح فى عينيها بريق حب وإخلاص وحنين لتفاصيل رحلة العمر، كلمات قصيدة الشاعر السورى الكبير، نزار قبانى، بعنوان "عيد العشاق"، والتى غناها الفنان العراقى، كاظم الساهر، وتقول أبياتها "حبيبتى .. حبيبتى .. حبيبتى .. اشربى شيئًا من الحلم معى .. اشربى شيئًا من الوهم معى .. واشربى شيئًا من الفوضى معى .. واتركى الباقى عليّ .. رائع رائع رائع.. عيد العشاق رائع".
أعمال فنية تحتويها قلعة موسى
"مارى" شربت حلم زوجها "موسى المعمارى"، ببناء قلعة تحولت إلى متحف يقصده آلاف السياح سنويًا، وصدقت هذا الحلم وشاركت فى تحقيقه.. ودائمًا ما يوصف المبدع بأنه "واهم"، ولكن هى أيضًا صدقت فى قدرة تحويل "الوهم" إلى حقيقة بعمل إبداعى، وخاطت أناملها ثياب التماثيل، فى رحلة إخلاص وكفاح امتدت لأكثر من 40 عامًا.. وأخيرًا تركت "مارى" الباقى على "المعمارى المبدع موسى" لتحقيق حلم بناء قلعته الجميلة، التى استلهم فكرتها من "قصة حب من طرف واحد" من فتاة صغيرة، على الرغم من أن "مارى" لم تكن طرفًا فى قصة الحب الملهمة.
تتحدث "مارى" زوجة "موسى المعمارى"، بعيون مغرورقة بالدموع، ونبرة صوت يكسوها الحزن قائلة: بدأنا تشييد هذه القلعة أنا وزوجى "موسى"، بعد أن مر "موسى" وهو سن صغيرة 14 عامًا، بقصة حب "بنت الجيران"، الفتاة التى تنتمى لأسرة ثرية، ويمتلك أباها قصرًا، وكان "موسى" ينتمى لعائلة فقيرة.. وبدأ "موسى" رحلة تحقيق الحلم ببناء القلعة والقصر الكبير، مدفوعًا بسخرية محبوبته "ذات الترف" من فقره وحياته المتواضعة.
"بالفعل رأى "موسى" فى الحلم أنه يبنى قصرًا كبيرًا"، تكمل "مارى" سردها للقصة الملهمة قائلة: وعندما ذهب إلى المدرسة فى اليوم التالى، طلب منه معلمه ومن تلاميذ الفصل أن يرسموا عصفورًا أعلى غصن شجرة، ولكن "موسى" رسم القلعة التى رآها فى الحلم، ليشاهد المعلم الرسم، وينهال ضربًا على "موسى"، ساخرًا منه: "إنت بترسم قلعة أبيك".. ويمزق المعلم الرسم، ويقوم "موسى" بلملمة الورقة الممزقة ويرد على معلمه قائلًا "سوف أبنى هذه القلعة، وستزورها يومًا ما لترى الحلم وقد صار حقيقة".. ثم يغادر "موسى" المدرسة دون رجعة، ويبدأ تحقيق حلم بناء القلعة وهو مدعومًا ببركة وعذوبة وجمال دعاء "أمه" له "يا رب إجعل التراب فى يد موسى ذهبًا".
صور لزوايا مختلفة لقلعة موسى
وتواصل زوجة "موسى المعمارى"، سرد القصة الملهمة، بأن "موسى" لم يكمل تعليمه، وذهب إلى عمه، والذى كان يعمل فى ترميم قلعة صيدا الشهيرة، فى لبنان، وعلى مدار 15 عامًا عمل خلالها "موسى" فى ترميم القلاع وأعمال أخرى، جمع موسى نحو 18 ألف ليرة لبنانية، حيث كان يهوى البناء والهندسة واكتسب الخبرات الكافية لتشييد قصره الناتج عن "قصة حب من طرف واحد"، وجمع بعض الأموال التى اشترى بها قطعة أرض على قمة جبال لبنان، وتزوجنا بباقى الأموال، وبدأنا فى تشييد القلعة.. هو يصنع التماثيل، ويبنى بأحجار القلعة التى لا تشبه إحداها الأخرى، وأنا أخيط الثياب التى ترتديها التماثيل، ليتحقق الحلم رويدًا رويدًا، ويبدأ المكان فى التحول من منزل للزوجية، إلى متحف.. ومع الرواج السياحى فى لبنان، فى فترة السبعينات من القرن الماضى، بدأنا نجنى بعض الأرباح التى ساعدتنا فى استكمال بناء طوابق وغرف القلعة، لتكتمل بكافة أعمالها الفنية ومقتنياتها على مدار 70 عامًا من "حلم موسى"، ولتصير البناء الذى يحمل تفاصيل الأمل والعمل والكفاح المشترك لتحقيق الحلم.
وخطط "موسى المعمارى" لأن يزور القلعة، كل من الفتاة التى أحبها فى صغره، ومُعلمه الذى سخر منه عندما رسم "القلعة" التى رآها "موسى" فى منامه، بل ومزق رسمته فى المدرسة أمام زملائه وانهال عليه ضربًا، ولكن القدر حال دون أن تتم زيارة "معلمه" للقلعة حيث مات قبل هذا اللقاء.
أما الفتاة، فقرر "موسى" بناء باب محدد للقلعة منخفض الارتفاع، لتمر من خلاله حبيبته السابقة، التى أصبحت سيدة متزوجة تعيش خارج لبنان، لإجبارها على الإنحناء أمام "الحلم" الذى تحقق فى عمل إبداعى فريد و"القصر" الذى شيده "موسى" نتيجة سخرية تلك الفتاة من فقره وهو صغير.
عبارات محفورة على جدران قلعة موسى
وفى مشهد مؤثر للغاية، وعندما زارت "محبوبته الملهمة" القلعة، واستقبلها "موسى"، سالت دموعهما سويًا من قوة الحالة الشعورية لتلك اللحظة وتأثير "الحب الذى كان".
وتوجه "مارى"، والتى تزوجت من موسى عبد الكريم المعمارى عام 1963 لتبدأ قصة الكفاح والإبداع وتحقيق الحلم، رسالة تحتوى عصارة "عشرة العمر" التى امتدت لنحو 55 عامًا، وحتى وفاة زوجها فى يناير 2018، رسالة إلى الإنسانية نصها، "الإيمان بقوة الفكرة والرسالة والغاية بين الزوجين يصنع النجاح ويحقق الحلم، ولابد لكل إمرأة أن تساند وتثق فى زوجها عندما يمتلك الأهداف، ودور الزوجة أن تكون شريكة ملهمة داعمة فى مشوار الحياة".
وفى نهاية رحلتى فى أرجاء القلعة، أهدتنى "مارى"، كتاب السيرة الذاتية لزوجها موسى المعمارى، والذى يحمل عنوان "حلم حياتى"، ممهورًا بتوقيعها، حيث يحتوى تفاصيل رحلة العمر وتحقيق الحلم والسعى الممتد على مدار 70 عامًا نحو الهدف والنجاح وإثبات الذات، لتكون قصة ملهمة لكل باحث عن الأمل، والعمل الجاد على مدار سنوات عمر طويل، وبإصرار وطموح لا ينقطع، للوصول إلى الغاية.
وستظل العبارة البليغة "حسب نواياكم ترزقون"، والمحفورة على جدران باب الخروج من "قلعة موسى"، حاضرة أمام عينى وتجول فى خاطرى دائمًا، لتلخص الرحلة الطويلة لتحقيق الحلم، وتؤكد أن صدق النوايا يحقق الغايات ويفتح خزائن الرزق والبركة فى الحياة وترتب لصاحبها أجمل الأقدار.
أحمد يعقوب محرر اليوم السابع أمام قلعة موسى أعلى جبل لبنان
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة