نزل «يفغينى بريماكوف»، مبعوث الرئيس السوفيتى «جورباتشوف»، إلى العراق بفندق الرشيد، فى بغداد، الساعة الحادية عشرة مساء 12 فبراير 1991، أثناء حرب أمريكا ضد العراق لتحرير الكويت التى بدأت 17 يناير 1991، وكان العالم يترقب تهديد الرئيس الأمريكى جورج بوش «الأب» بشن الحرب البرية، بعد أن حققت الضربات الجوية أهدافها، وأرسل «جورباتشوف» مبعوثه إلى بغداد لإقناع الرئيس العراقى صدام حسين بسحب قواته من الكويت دون شرط، كى يتوجه الرئيس السوفيتى إلى أمريكا باقتراح لوقف إطلاق النار.
يكشف «بريماكوف» - الذى أصبح فيما بعد رئيسا للحكومة السوفيتية من 1998إلى 1999 - وقائع ما جرى معه فى بغداد، فى كتابه «يوميات بريماكوف فى حرب الخليج»، مشيرا إلى أن لقاءه هذه المرة مع صدام كان الثالث منذ غزو العراق للكويت فى 2 أغسطس 1990، ويذكر أن معرفته قديمة جدا بصدام، حينما كان مراسلا للشرق الأوسط فى ستينيات القرن الماضى لجريدة «برافدا» لسان حال الحزب الشيوعى السوفيتى، والتقاه لأول مرة عام 1969، ولم يكن آنذاك رئيسا للعراق، وإنما من أقوى أعضاء القيادة العراقية، يذكر «بريماكوف» أن بعد وصوله تلقى أبلغوه فى وقت متأخر من الليل بأنه سيلتقى مع طارق عزيز الساعة الحادية عشر صباح 13 فبراير، مثل هذا اليوم، 1991، بالسفارة السوفيتية، وفى اللقاء انهالت اتهامات «عزيز» للاتحاد السوفيتى وسياساته التى كادت أن تعطى الضوء الأخضر لحرب الأمم المتحدة ضد العراق، يتذكر «بريماكوف»: «اقترحت على طارق أن نتمشى بعض الوقت فى الحديقة، وأثناء ذلك ظل الحديث حاد اللهجة»، يضيف: «خطر لى أن طارق يفعل ذلك من أجل أن يكشف ردود فعلى ومدى متانة تعاوننا مع الولايات المتحدة والبلدان الأخرى فى الائتلاف متعدد الجنسيات»، يقول: «فاتحت طارق بأن العراق يرتكب الغلطة تلو الغلطة، ويحاول صيانة ما لا يصان، وسقت له - كمثال - الخبر الذى أثار فوران العالم بأسره، بأن السلطات العراقية أعلنت نيتها تسكين الأسرى من الطيارين الأمريكيين وممثلى البلدان الأخرى المشاركة فى القوات متعددة الجنسيات فى المنشآت الاستراتيجية، منتهكا بذلك معاهدة جنيف كليا، وردا على ذلك استأنف طارق من جديد اتهامه لنا، وعندها قلت له: إننا لم نصل إلى هنا لسماع كل ذلك، وإذا كان هذا ما ينتظرنى من جانب صدام فقد أكون فى غنى عن مقابلته»، فى مساء اليوم ذاته التقى بريماكوف مع صدام، يتذكر: «نقلونا إلى طريق تحت الأرض يصل إلى احدى دور الضيافة فى وسط المدينة والتى أضاءتها المصابيح الكهربائية بمولدات صغيرة، ووصل صدام مع كل أعضاء القيادة العراقية، وجلس قرب أحد المدافئ النفطية، وخلع معطفه العسكرى، ونزع كالعادة حزامه الذى يتدلى منه جراب مسدسه، وفطنت إلى أنه فقد من 15 إلى 20 كيلوجراما منذ لقائنا الأخير، ولكن مظهره دل على الهدوء، وعلى قدر كاف من الاعتداد، واستهل حديثه بتوجيه اللوم إلى الاتحاد السوفيتى، وكذلك عبارات يمكن اعتبارها بمثابة محاولة لإظهار رسوخ الموقف العراقى، وكان الطابع الذى ميز أقواله يرجع بالأحرى إلى حضور أعوانه، وكان انطباعى أنه يخاطبهم أكثر ما يخاطبنى».
طلب بريماكوف الانفراد بصدام، وعندما انفرد به قال له: «الأميركيون يميلون بكل حزم إلى بدء عملية برية واسعة الأبعاد يتم خلالها تدمير حشود القوات العراقية فى الكويت، سيتم تدميرها، أتفهمنى؟ إن السياسة هى فن الممكن، واقترحت عليه بإيعاز من الرئيس السوفيتى: إعلان سحب القوات من الكويت على أن يحدد فى هذا الإعلان أقرب المواعيد لهذا الانسحاب، وأن يكون تاما وأكيدا»، يتذكر «بريماكوف»، أنه حدث الانقلاب الحقيقى لأول مرة عند صدام وراح يطرح الأسئلة: هل يمكننى أن أثق بأنهم لن يطلقوا النار فى ظهور الجنود الخارجين من الكويت؟ هل سيتم وقف الغارات على العراق بعد انسحاب قواته؟ هل سيتم إلغاء العقوبات التى فرضتها الأمم المتحدة ضد العراق؟ فى الوقت ذاته بدأ صدام يتلمس إمكانية تغيير طبيعة النظام فى الكويت، فأجبته بأن الحديث يجب أن يدور حول استعادة الوضع الذى كان قبل الثانى من أغسطس، يضيف: «سألنى إذا كان يمكننى البقاء فترة أطول فى العراق، فأجبته: سأسافر إلى الحدود الإيرانية فى السادسة صباحا، فوافقنى بأنه يستطيع فعلا أن يجمع القيادة العراقية هذه الليلة، وأن طارق عزيز سيحمل الجواب المقتضب إلى السفارة السوفيتية».
فى الساعة الثانية من ليل 13 فبراير، وصل طارق عزيز إلى السفارة السوفيتية، يتذكر «بريماكوف»: «جلب معه بيانا خطيا جاء فيه: إن القيادة العراقية تعكف بجد على دراسة الأفكار التى بسطها ممثل الرئيس السوفيتى، ولسوف تجيب عنها فى القريب العاجل»، وذكر طارق عزيز أنه سيتوجه إلى موسكو فى يوم الأحد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة