عرض الموسيقار محمد الموجى، على مطربة شبه مجهولة، لحن أغنية «صافينى مرة»، وفرح فرحا شديدا من موافقتها على أن تغنى له، كانت المطربة شبه المجهولة تعمل فى صالة زينب عبده بكازينو البوسفور، المطل على «باب الحديد» بميدان محطة القاهرة للسكة الحديدية، وحسب الناقد والمؤرخ الفنى كمال النجم،ى فى كتابه «تراث الغناء العربى»: «يبدو أن غناء المطربة - شبه المجهولة - لم يعجب الموجى، فعرض اللحن على المطرب عبدالغنى السيد الذى كان حتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى هو المطرب الثانى بعد محمد عبدالوهاب، فاعتذر عبدالغنى إلى الملحن الناشئ، وأفهمه أنه لا يغنى إلا لكبار الملحنين».
كان هناك ما يبرر فرح «الموجى» بأن تغنى له هذه «المجهولة»، فحسب «النجمى»: «لم يستطع أن يقفز إلى النجاح والشهرة، بل ظل يمشى خطوة إلى الأمام، ونصف خطوة إلى الوراء، فيتقدم بألحانه إلى المطرب المشهور محمد عبدالمطلب، فلا يقبلها منه لأنه ملحن مغمور، ويتقدم إلى آخرين من المشاهير وأشباه المشاهير، فلا يقبل أحد منهم لحنا من ألحانه، ويسأل بعضهم بعضا: متى جاء هذا الملحن إلى الإذاعة؟!».
كان عبدالحليم حافظ، المولود يوم 21 يونيو 1929، قد توثقت علاقته بالموجى «من خلال عملهما المتواضع بالإذاعة، يذكر النجمى : «قال للموجى: اعطنى هذا اللحن وسترى كيف أغنيه، وهكذا غنى عبدالحليم صافينى مرة، وكانت بداية طريق السعادة لهما معا»، ويضعها الناقد والمؤرخ الفنى الدكتور نبيل حنفى محمود فى سياق البدايات لعبدالحليم، لكنه يميزها عن غيرها من أغانى البدايات للعندليب الأسمر، قائلا فى كتابه «معارك فنية»: «انطلق صوت القادم الجديد إلى عالم الغناء بأغنيات عبرت وبصدق عن لهجة غنائية جديدة، وهى أغنيات قدمت عبر ميكروفون الإذاعة مثل لقاء، وظالم، والأصيل الذهبى، وتوجت بأغنية صافنينى مرة، التى تغنى بها عبدالحليم لأول مرة فى الإذاعة فى مساء الحادى عشر من فبراير - مثل هذا اليوم - عام 1953، وكانت بمثابة كلمة السر التى فتحت له أبواب الشهرة والجماهيرية».
كما أنها «تعتبر شهادة الميلاد الفنى الحقيقية لعبدالحليم حافظ، ومن خلالها عرفه الناس، وبأفضل صورة يمكن لفنان أن يحصل عليها» حسبما يذكر الناقد الموسيقى الدكتور زين نصار، فى دراسته «عبدالحليم حافظ وأغانيه العاطفية» المنشورة ضمن دراسات أخرى فى كتاب «عبد الحليم حافظ وعصر من الغناء الجميل»، واللافت أن هذه الأغنية وقبل تسجيلها إذاعيا رفضها الجمهور حين قدمها عبدالحليم على المسرح القومى فى الإسكندرية، فحسب صديقه ومدير أعماله مجدى العمروسى فى كتابه «أعز الناس» أنه ذهب إليه فى المسرح بالإسكندرية ليستمع إليه لأول مرة، فوجده يغنى أغانى جديدة لم يكن سمعها من قبل «صافينى مرة»، و «يا حلو يا أسمر»، ويرفض أن يغنى أغانى عبدالوهاب أو عبدالعزيز محمود، ويرفض غناء ما يطلبه الجمهور، وأخيرا توقف عن الغناء وأوقف الموسيقيين خلفه، وقال: أنا جيت أغنى الأغانى بتاعتى، ولن أغنى أغانى مطرب آخر، ونزل من على المسرح، وحضر هو وبعض الموسيقيين الذين كانوا خلفه، ومعهم شخص رفيع وطويل وله شنب دقيق ويحمل العود، وعرفنى به عبدالحليم قائلا: محمد الموجى.
أسست «صافينى مرة» - بدون مبالغة - لمرحلة جديدة فى الموسيقى العربية، مرحلة «ما قبلها ليس كما بعدها» وفقا لرأى ياسر علوى، فى دراسته: «مع الساحر محمد الموجى: صافينى مرة»، (جريدة الشروق - القاهرة - 6 مارس 2014)، مضيفا: «الكلمات لسمير محجوب، الذى تعاون مع الموجى وعبدالحليم لينتجوا درتين من أجمل أغانى البداية لعبدالحليم، هما صافينى مرة، ويا تبر سايل بين شطين، والكلمات بسيطة، تصف حالة شديدة من الرومانسية برشاقة وبدون أى فذلكة أو تعقيد»، يؤكد «علوى» أننا أمام تجربة موسيقية مجددة تماما، تستلهم عبدالوهاب فى المزج بين اللحن الشرقى والإيقاع الغربى، لكنها تبدع وتطرق سككا جديدة، فى لحن مدته 6 دقائق فقط، جمل قصيرة رشيقة كانت جديدة تماما على الأذن العربية وقتها، تمزج بين الجمل ذات الطابع الغربى، والمقامات المستخرجة من غياهب الموسيقى العربية لملحن شاب، عمره وقتها 32 سنة فقط، يعلن أنه سيكون من أعلام الموسيقى العربية، أى يعلن ببساطة أنه سيكون محمد الموجى».
يذكر «النجمى»: «يكاد ينعقد الإجماع الآن على أن ألحان الموجى من أجمل ما غنى عبدالحليم طوال حياته الفنية، وهى كذلك قمة إبداعه، والاثنان جزء من الإبداع المتنوع فى الخمسينيات والستينيات، تلك الفترة ذات الطابع الرومانسى الخاص فى الموسيقى والأدب والفن، فترة الصعود القومى والاجتماعى والسياسى وانطلاق الخيال المصرى والعربى إلى آفاق رحبة ومتعددة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة