ذهب الشيخ مصطفى عبدالرازق، إلى صديق عمره الدكتور طه حسين، ليهنئه بعيد ميلاده السادس والخمسين فى 14 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1945، فيستبقيه عميد الأدب العربى للعشاء، ويجلسان ومعهما «أمينة» التى زينت مائدة الطعام بمناسبة عيد ميلاد أبيها، حسبما يذكر زوجها الدكتور محمد حسن الزيات فى كتابه «ما بعد الأيام».
كانت «سوزان» زوجة طه حسين فى باريس، و»أمينة» ترعى أبيها فى القاهرة، وكان مصطفى عبدالرازق مرشحا وقتئذ لمشيخة الأزهر، وعلى مائدة الطعام يدور حوارا ثريا بينهما حول تأسيس مجلة «الكاتب المصري»، وقضايا أخرى، ويذكر «الزيات» تفاصيله.
يسأل «طه» صديقه: «هل تذكر أننى كنت أريد أن أصدر مجلة أدبية مع أخيك الشيخ على؟..يرد «مصطفى»: نعم، وكنتم فكرتم فى كل شىء، وأعددتم لها كل شىء إلا المسائل التافهة مثل الإدارة والمطبعة والورق والتوزيع»، يتذكر «طه»: استطعت أنت أن تثنينا، أنا وعلى، عن المشروع فى ذلك الوقت، بإثارتك تلك المسائل التافهة، يرد مصطفى: «ألم يكن ذلك هو عين العقل؟»،
يجيب طه: لا، فى الحقيقة أن العقل كان أن نصدرها، على كل حال سأصدر أنا هذه الصحيفة الآن، أو شيئا مثلها»، يسأله «مصطفى»: ألم تكفك متاعب جريدتى الكوكب والوادى؟ هل نسيتها؟» يرد «طه»: لا، لم أنس المعلم متعهد الصحف الذى كان يتحكم فى التوزيع، ولا الحكومة التى تتحكم فى المعلم، ولكن هل تعتقد أن كل هذه المتاعب كانت تذوب عندما كنا نعبر عن آرائنا ونوصلها لجماهيرنا؟ أحس أننى فى العمل الصحفى متصل مباشرة بالجمهور».
يقول «مصطفى»: أرجو على الأقل أن تكون أحسنت الاستعداد لإصدار المجلة هذه المرة» يرد طه: «سيتكفل تاجر بالتوزيع وسيكون للمجلة سكرتير للتحرير، أديب شاب، ذكى ونشط هو الأستاذ حسن محمود، وسأتولى أنا مسؤولية التحرير مع زملاء وتلاميذ، لا يجوز أن نحرم العالم العربى من أن يسمع أصواتهم، الدكتور محمد عوض، والأستاذ محمد رفعت، والدكتور سليمان حزين، والأستاذ توفيق الحكيم، وكثير من الشباب».
يكشف «طه» أن أصحاب محل آلات وأدوات مكتبية اسمه «الكاتب المصرى» وهم الأخوة هرارى، سيتكفلون بالتوزيع، وأن اسم «الكاتب المصرى» أعجبه وسيجعله اسم المجلة.ويقول لصديقه مبتسما: «لا أعتقد أن فضيلة الشيخ الأكبر لديه وقت للمساهمة فيها»، يرد «مصطفى»: «أساهم فيها بالدعوات الصالحات وبالقراءة المنتظمة إن شاء الله، والحقيقة أن هذه المجلة تظهر فى أوانها، فالعالم الآن يدخل مرحلة جديدة، يدخل دنيا القنبلة الذرية، والأمم المتحدة».
يعلق «طه»: «نعم العالم يدخل عهد ميثاق الأمم المتحدة، قرأته، كلام رائع، وأنا سعيد لأن صديقنا الأستاذ عبدالحميد بدوى كانت له مساهمة فى إعداده، وصديقنا الأستاذ محمود عزمى يترجمه للعربية الآن، ولكن ماذا يكون مصير هذه الأمم المتحدة؟ هل يكون مصير عصبة الأمم؟ ما مصيرنا نحن الدول الصغيرة؟ ما مصير العرب؟ بالأمس جاءنى محرر جريدة فرنسية نسيت اسمها، وتُذكِره «أمينة»، قائلة: اسمها «صوت العالم – إيماج دى موند»، ويستأنف طه حديثه.. سألنى عن الحرب، فقلت له، الحرب انتهت بالقنبلة الذرية، لكنها تركت قنبلة زمنية هى فلسطين»، يرد مصطفى: عندك حق، وهل يترك الإنجليز مستعمرة لهم دون أن يخلقوا فيها المشاكل؟».
يضيف مصطفى: الدرس الذى نتعلمه من هذه الحرب سبق أن عمله لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: «النجاح إنما يكون بالإيمان والإخلاص والتصميم، وعلينا أن نتسلح بهذه الصفات لنحقق أهداف أمتنا فى هذا العالم الجديد»، يرد «طه»: بشرط أن تتعلم الدول الكبرى ألا تكيل بمكيالين، وألا ترى ضرورة لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان لشعوبها هى، ولا ترى لشعوبنا نحن حقا فى هذا، عندما جاء الجنرال ديجول إلى مصر، وهو رئيس فرنسا الحرة، قلت له لايمكن أن تطالب فرنسا باستقلالها وحريتها وهى تنكر على الشعوب الواقعة تحت سلطانها هذا، ووافق ديجول، فكان لبعد نظره أن عهد الاستعمار إلى زوال.
يذكر «الزيات»، أن أمينة انصرفت ثم عادت بكعكة عليها شموع، وتقول: «عليك يا أبى أن تطفئ هذه الشموع»، فيعلق مصطفى: أبوك يا ابنتى لايجيد إلا إيقاد الشموع، ويرد طه: أحيانا لا بد أن نهدم لنبنى..هل تذكر ما سمعنا ونحن فى الأزهر، كانوا يقولون: «الحق هدم الهدم»، ويقول الشيخ مصطفى: نعم كان هذا منذ زمن طويل، والآن اسمحى لى يا أمينة أن أبدأ فأتمنى لأبيك أن يصل إلى سنة المائة وخمسة وخمسين، إن أباه الشيخ حسين رحمه الله وصل إلى سن المائة وخمسة، وقانون التطور يقضى بأن نتفوق على آبائنا، أليس كذلك؟ ولا ينتظر ردا، ولكنه ينهض ليقدم إلى طه سبحة يحملها، ويقول: وهذه سبحة أرجو أن تذكرك بهذا العشاء الصغير الجميل.
يرد طه متأثرا: «إنك لتعلم أنك وأنا إنما نطلب العمر العريض وليس العمر الطويل».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة