كان اللورد كرومر، المندوب السامى البريطانى فى مصر، يعرف سعد زغلول من زيارته لنادى الأميرة نازلى فاضل، ويسمع عنه من أحاديث الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ويعلم ما اشتهر به فى القضاء من الجد والنزاهة وحسن الدراية، وفقا لعباس محمود العقاد فى كتابه «سعد زغلول سيرة وتحية».
يرى العقاد أن كرومر لما عاد إلى مصر بعد فاجعة حادثة دنشواى، كان مزودا من وزارة الأحرار الإنجليزية بسياسة الهوادة والتسامح مع الوطنية المصرية، والتقرب إلى المصريين الفلاحين، وعلم أن هذا الفلاح «سعد زغلول» أصلح الناس لأن يكون رمزا للاعتراف الجديد والتقرب المقصود، فتم تعيينه وزيرا للمعارف العمومية، فى 28 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1906.
يذكر العقاد، أن الأمة تلقت وزارة سعد على هذا الاعتبار، وفهمت منها ابتداء خطة جيدة فى السياسة البريطانية، وينقل ما ذكرته جريدة «المؤيد» فى يوم تعيينه، قائلة: «مضت إحدى عشرة سنة وبضعة شهور على الوزارة المصرية وهيئتها على حالة واحدة، لم يحصل فيها تغيير ولا تعديل بفضل سكونها وعدم حركتها، حتى كادت تنسى الأمة المصرية أن لها وزارة من كبار رجالها، وصار كل عمل فى الدواوين للمستشارين، وكل ظلامة ترفع لهم وكل اعتراض يوجه إليهم، وبينما نحن كذلك فى هذا القنوط من وزرائنا، إذا برنة جرس قوية صلت على الآذان فنبهت الأذهان إلى حركة جديدة فى الوزارة، حركة تعديل تبعث فى النفس أملا جديدا من جانبها، لأننا لا نفهم بهذا التعديل الجديد معنى إلا أن ولى الأمر ومستشاريه من أصحاب النفوذ رأوا أن يعيدوا للنظار شيئا من سلطتهم، فلا يكونوا مع المستشارين كما هم قبل اليوم، ولعل هناك تعليمات من قبل خارجية إنجلترا قضت بذلك بعد الذى جرى من الحوادث فى مصر وأساء للمصريين ».
ثم تذكر «المؤيد» مناقب سعد زغلول قائلة: «وسعد بك زغلول يعرفه المصريون قاطبة بالعلم والفضل وعلو المبادئ، واستقلال الرأى كما يعرفونه بالمقدرة الفائقة.. وقد عُرف فى كل أدوار حياته بالنشاط وحب المزيد من العلم حتى إنه وهو فى حوالى الأربعين من عمره تعلم الفرنساوية حتى برع فيها، وأدى بها امتحانا نهائيا فى الحقوق».
أما صدى هذا القرار عند الزعيم مصطفى كامل، فكان الترحيب، لكنه عبر عن مخاوف وتحديات، وطالب سعد بمواجهاتها، ووفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية»، فإن «كامل » كتب مقالا بجريدة اللواء يوم 28 أكتوبر 1906 بعنوان «سعد بك زغلول وزير المعارف»، يقول فيه: «لما قابل جناب اللورد كرومر أول البارحة سمو الخديو المعظم عباس حلمى فى سراى التين، عرض عليه تعيين سعادة سعد بك زغلول المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية وزيرا للمعارف المصرية، فارتاح الخديو لهذا الطلب لما يعهده فى سعادة سعد بك من الفضل والعلم والأخلاق القويمة، وأن ما يعرفه الناس فى أخلاق وصفات سعد بك زغلول، وهو فى المحاماة أولا، وفى القضاء ثانيا، يحملهم جميعا على الارتياح لهذا التعيين، الذى صادف مصريا مشهورا بالكفاءة والدراية والعلم الغزيز وحب الإنصاف والعدل».
ثم يطرح مصطفى كامل مخاوفه، قائلا: «لما كانت الوزارة من سنوات مضت إلى اليوم منصبا لا عمل فيه، وكان المستشارون الإنجليز أصحاب السيطرة التامة فى النظارات، حق للناس أن يتساءلوا عما يعمله سعادة سعد زغلول بك فى وزارة المعارف، هل يكون كبقية الوزراء، أمره وأمر المعروف بيد المستر دنلوب، أم يكون وزيرا اسما وعملا ويحيى سلطة الوزراء المصريين؟..اللهم إننا عرفنا سعد بك فى ماضيه وحاضره أشد الناس تمسكا باستقلاله وحقوقه، وأكثرهم انتقادا على الذين تركوا سلطة مناصبهم لغيرهم، وسمعناه يقرع بلهجة حادة الكسالى والمقصرين كبارا كانوا أو صغارا، فإذ بقى سعد بك فى وظيفته الجديدة كما هو وكما كان- وهو ما نعتقد- أملنا خيرا كبيرا للمعارف».
«على أنه إذا كان جناب اللورد كرومر اختار سعد بك وزيرا للمعارف، تقديرا لعلمه وإعلانا لتغيير جنابه للسياسة الاحتلالية الماضية، واتباعه لسياسة جديدة قاضية بإعطاء المناصب لمستحقيها وتشريف الكفاءة، فإن السياسة تقضى قبل كل شىء بأن يكون الوزير وزيرا حقيقة، والعامل عاملا مؤديا لوظيفته متمتعا بكل حقوقه، لا أن يكون آلة فى يد الموظف الإنجليزى».
يختتم مصطفى كامل مقاله قائلا: «نحن لا نبتهج اليوم بتعيين سعادة سعد بك زغلول وزيرا للمعارف إلا بأمل أن يكون كما كان على مبارك باشا، والفلكى باشا، وأمثالهما ممن خدموا العلم فى هذا القطر خدمات خالدة، وكانت لهم فى مناصبهم الكلمة النافذة، والرأى المنيع، ونطالبه قبل مطالبنا للاحتلال بأن يكون كذلك، وأن يكون فى مستقبله كما هو فى حاضره، وكما كان فى ماضيه الرجل المستقل الذى لا يخدعه منصب ولا مال».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة