كان زعيم حركة الاستقلال الكونغولية «لومومبا» فى مخبأ سرى، بعد أن استطاع الهروب من الحصار المفروض عليه من قوات الجيش، الذى يدين بالولاء لموبوتو «رئيس الكونغو فيما بعد»، وبعث برسالة سرية من مخبأه إلى السفير المصرى فى الكونغو الدكتور مراد غالب يخبره بمكانه ويطلب مقابلته.. وجد «غالب» حالة لومومبا سيئة للغاية، وفقا لمذكراته «مع عبدالناصر والسادات».
وأضاف: «أرسلت إلى الرئيس عبدالناصر فى الحال برقية أشرح له هذه المقابلة، وأبلغه أن لومومبا على قيد الحياة، لأنه كان قد شاع أنه قتل، وأصبحت المصدر الوحيد لأخباره، بعد أن استمرت مقابلاتى السرية معه، وطلب منى موافقة الرئيس عبدالناصر على خروج زوجته وأبنائه إلى مصر، لأنه يخاف على حياتهم».
كان «لومومبا» يواصل نضاله وصراعه ضد الاستعمار البلجيكى من أجل استقلال بلاده، وفاز فى الانتخابات وأصبح رئيسا للوزراء، وكانت مصر حاضرة معه بقوة.. كان محمد فائق مديرا للشؤون الأفريقية فى رئاسة الجمهورية وقتئذ، وفى مذكراته «عبدالناصر والثورة الأفريقية» يذكر: «بعد ثمانية أيام من إعلان الاستقلال فى 8 يوليو 1960، تمرد الجيش الكونغولى بتحريض من ضباطه وكانوا جميعًا من البلجيك، ووزع الجيش أسلحته على المدنيين البلجيك، فعمت الفوضى البلاد، وأنهار القانون والنظام».. يضيف «لعبت مصر دورًا مهما ورئيسيا فى هذا الصراع، ووقفت إلى جانب القوى الوطنية، وكان لدورها هذا أثر كبير فى سير الأحداث ليس فى الكونغو فقط، ولكن فى أفريقيا كلها».. يشير «فائق» إلى أنه تعرف على لومومبا عام 1958، وكان يراسله سرًا على صندوق بريد خاص فى «برازافيل» الخاضعة للاستعمار الفرنسى، كما أرسله عبدالناصر فى مهام سرية إليه فى الكونغو.
واستجاب «عبدالناصر» لطلب لومومبا، وأرسل كتيبة مصرية بقيادة العقيد سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 1973 لتعمل ضمن قوات الأمم المتحدة فى الكونغو بعد احتدام الصراع بين لومومبا ورئيس الكونغو «كازافوبو» وأعوانه، كما أرسل العميد أحمد إسماعيل «وزير الحربية فى حرب أكتوبر» ليكون المستشار العسكرى بالسفارة المصرية، ويقوم بتدريب جيش الكونغو، وفقًا لمراد غالب، مضيفا: «لم يجد بعد وصوله جيشا يدربه سوى قوات تفتقد أى انضباط وهى التى استطاع «موبوتو» أن يكون قائدا لها».
اشتد الصراع، وحوصر لومومبا.. يتذكر «غالب» أنه بعد أيام قليلة من مقابلته السرية معه تلقى منه تليفونا، يكرر فيه طلبه بإخراج أسرته..يؤكد غالب: «نقلت رسالته إلى القاهرة، وجاءنى الرد بالموافقة، وبدأنا نضع خطة التهريب».. قدر لى أن أستمع إلى هذه الدراما من «باتريس» الابن الأوسط للزعيم الأفريقى، وكان فى ضيافة المرحوم الدكتور خالد عبدالناصر بمنزله شتاء عام 2000 ودعانى إلى هذا اللقاء، ولا تختلف أنه روايته كثيرا عما رواه مراد غالب فى مذكراته، وإن كان هو ذكر دورا لسعد الدين الشاذلى فى حين لا يذكره غالب، الذى يقول إن خطة التهريب تمت عبر لجنة برئاسة العميد أحمد إسماعيل، ومعه ضباط كوماندوز مصريين من فرقة الصاعقة كانوا مكلفين بتشغيل محطة اتصال لاسلكى قوية للغاية مع مصر ومعهم عساكر مصريون، وقامت الخطة على أن يستخرج عبدالعزيز إسحق المستشار بالسفارة المصرية جواز سفر فيه معلومات غير صحيحة بأنه متزوج من سيدة كونغولية رغم ملامحه الأقرب إلى الأوروبيين، واستندت الخطة إلى الانتظار لحين مجىء دور الكتيبة السودانية بقوات الأمم المتحدة فى السيطرة على المطار، وجاء اليوم المحدد وذهب إسحق للسفر إلى القاهرة، ومعه عائلة لومومبا باعتبارها عائلته.
يؤكد «غالب»: كنا نعرف أن المخابرات البلجيكية منتشرة فى المطار، وكانت التعليمات لإسحق أن يتجاهل النداء الأول والثانى والثالث الذى يطلب من الركاب الصعود إلى الطائرة المسافرة إلى لشبونة ولا يظهر إلا قبل إقلاعها بثوان مع عائلته، ويجرى معهم ليلحق بالطائرة فى آخر ثوان لها قبل الإقلاع، بحيث يكون العاملون فى المطار فى موقف يجعلهم يساعدون هذه العائلة على دخول الطائرة، وحدث هذا فعلا وركبوا الطائرة ووصلوا إلى القاهرة ووجدوا فى استقبالهم احتفالا كبيرا فى مصر، يقابله غضب عارم فى الكونغو من المخابرات البلجيكية والغربية، وعاشت أسرة لومومبا فى القاهرة تحت رعاية جمال عبدالناصر.
تداعت الأحداث إلى أن تم اغتيال لومومبا فى 17 يناير، مثل هذا اليوم، 1961.. يذكر فائق: «ما زلت أذكر كما يذكر الكثيرون غيرى منظر لومومبا وهو يساق إلى حتفه، وكانت شاشات التليفزيون تعرض فيلما استطاع أحد المصورين التقاطه للومومبا بعد القبض عليه.. كان مقيد اليدين، يدفعه حراسه ويضربونه بكعوب بنادقهم، فيسقط على الأرض، ثم يجذبونه من شعر رأسه ليقف فيلاقى الضرب والركل من جديد، ولكن نظرات لومومبا وملامح وجهه كانت تعكس كل ملامح الإصرار والتضحية من أجل تحقيق الأهداف السامية التى يؤمن بها الإنسان».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة