رصدت دراسة حديثة صادرة عن المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية التحولات التى مر بها تنظيم “القاعدة” خلال عام 2020 على اثر جملة من التحديات واجهت التنظيم ترتب عليها أن تصاعد حديث عن احتمالية أفول نشاطه، إلا أن هناك إغفالًا كبيرًا لحقيقة مفادها أن القوة الحقيقية للتنظيم تتمثل فى قوة أفرعه، إذ أن الأخيرة لديها مساحات كبرى للمناورة بصرف النظر عن التخبط الذى تشهده القيادة المركزية. وفى ضوء تلك المعطيات سعت الأفرع إلى اتباع استراتيجية جديدة قائمة على تقديم نفسها كفاعل سياسى يمكن التفاوض معه.
ورصدت الدراسة مجموعة من النماذج مختلفة لعدد من فروع تنظيم “القاعدة” عملت على اتباع ذلك النهج، ويمكن تناولها على النحو التالي:
١. هيئة “تحرير الشام”: ظهرت كفرع تابع لتنظيم “القاعدة” فى سوريا عام 2012 تحت مسمى “جبهة النصرة” وتحولت بعد ذلك إلى “هيئة تحرير الشام” عندما أعلنت انفصالها عن “القاعدة” بهدف إعادة تسويق نفسها. ومن ثم سعت إلى تعزيز نفوذها فى إدلب عبر عقد تحالفات واسعة مع المجموعات المسلحة.
اعتمدت الهيئة فى تقديم نفسها كقوة سياسية على مسارين أساسيين، المسار الأول يتمثل فى المهادنة السياسية عبر عقد تفاهمات مع دول من ناحية، واستيعاب الفصائل المسلحة من ناحية أخرى، والمسار الثانى يقوم على استخدام القوة العسكرية ضد الفصائل التى لم تتفق مع رؤيتها. وعليه، عملت على إعادة تشكيل ورسم صورتها لتبدو كمجموعات معارضة داخلية بهدف الانخراط فى التسويات المستقبلية للأزمة السورية.
٢. حركة “الشباب الصومالية”: تعد فرعًا تابعًا لتنظيم “القاعدة” فى القرن الإفريقى منذ عام 2012، فهى التنظيم الإرهابى المسلح الأكبر والأقوى فى الصومال، إذ تسيطر على جزء كبير من جنوب ووسط الصومال، بجانب تمكنها من بسط نفوذها أيضًا فى مناطق تسيطر عليها الحكومة الصومالية.
وفى إطار سعى الحركة لتقديم نفسها كقوة سياسية، فهى تتبع مسارًا موازيًا بجانب التصعيد ضد القوات الحكومية، حيث تقوم بجمع الإيرادات فى بعض المناطق الريفية، ناهيك عن فرضها الضرائب على الثروة الحيوانية والمحاصيل وحتى على استخدام الموارد المائية. وفى المقابل توفر الخدمات للسكان بالمناطق التى تخضع لسيطرتها.
وفى ضوء استمرار ضعف الجيش الوطنى الصومالى بالتزامن مع اقتراب قرب موعد مغادرة بعثة الاتحاد الإفريقى فى الصومال، ناهيك عن قيام الحركة بتعظيم هجماتها الإرهابية فى الآونة الأخيرة، يدعو الكثير من الخبراء الحكومة الصومالية إلى إعادة التفكير فى نهجها فى التعامل معها ودراسة خيار التفاوض.
٣. جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”: تمثل أكبر تحالف يدين بالولاء لتنظيم “القاعدة” منذ تأسيسها عام 2017، فهى واحدة من أخطر التنظيمات الإرهابية فى منطقة الساحل والصحراء، حيث تتمركز بشكل أساسى فى مالي. وبجانب تمتعها بقدرات عسكرية وخبرات ميدانية فهى تحظى بدعم محلي.
وقد أعلنت عن استعدادها للتفاوض مع الحكومة المالية، حيث نَشرت فى مارس 2020 بيانًا حول “قبول التفاوض مع الحكومة المالية نزولًا عند رغبة الشعب المظلوم”، لكنها اشترطت انسحاب القوات الفرنسية وبعثة الأمم المتحدة من مالي”. وفى المقابل، أعلنت حكومة مالى الانتقالية فى فبراير الماضى عن تشكيل هيئة للدخول فى مفاوضات مع المتشددين على صلة بتنظيم “القاعدة”.
وقدمت الدراسة تفسيرات متعددة حيث أشارت إلى أن هناك جملة من الأسباب التى تفسر ذلك التوجه من قبل فروع تنظيم “القاعدة”، ويمكن تناولها على النحو التالي:
١. الدولة الفاشلة: إذ شهد عدد من دول الشرق الأوسط وإفريقيا تصاعدًا فى ظاهرة الدولة الفاشلة، على خلفية الانخراط فى صراعات لفترات طويلة، ما أسفر عن ضعف الحكومات المركزية وعدم قدرتها على القيام بوظائفها التقليدية، وعلى رأسها الوظيفة الأمنية. بجانب انعدام الاستقرار السياسى، والاقتصادى، والاجتماعي. ومن ثم توفر تلك الظاهرة مساحة كبرى تستثمر فيها التنظيمات الإرهابية، سواء على صعيد التجنيد أو التمدد الجغرافى من ناحية، أو على صعيد تقديم نفسها كبديل للدول من ناحية أخرى. الأمر الذى يُجمل فى طياته حصولها على الشرعية فى المجتمعات التى تنشط فيها.
٢. التعلم التنظيمي: مَثّل قيام تنظيم “داعش” بتدشين خلافته المزعومة عبر استثماره فى حالة الصراع التى مرت بها عدد من بلدان الشرق الأوسط، تطبيقًا للهدف المنشود لكافة التنظيمات الإرهابية التى سبقته. إذ نجح فى التمدد وفرض السيطرة المكانية على مساحات مساحات شاسعة فى العراق وسوريا، بجانب إنشائه عددًا من الهياكل المؤسسية للحكم وإدارة المناطق التى تخضع لسيطرته، مما أسفر عن الضغط العسكرى عليه الذى ساهم فى تقويض نشاطه. ومن ثمّ مثلت تجربته درسًا مستفادًا لفروع تنظيم “القاعدة” فى ضوء رغبتها فى الوصول إلى الحكم بمناطق سيطرتها، وبالتالى عملت الأخيرة على تنويع استراتيجياتها ما بين الضغط العسكرى على القوات الأمنية من جهة، وتعزيز شرعيتها فى المجتمعات التى تنشط بها من جهة أخرى، والتلويح بورقة التفاوض من جهة ثالثة.
٣. نجاح نموذج: فبعد ما يقرب من عقدين على الحرب فى أفغانستان، انخرطت الولايات المتحدة مع حركة “طالبان” فى مفاوضات أسفرت عن توقيع اتفاق سلام بينهما فى فبراير 2020، ينص على انسحاب قوات الأولى من أفغانستان، فى مقابل امتناع الثانية عن استخدام الأراضى الأفغانية للقيام بعمليات من شأنها تهديد أمن الأولى وحلفائها، بجانب الاتفاق على تبادل الأسرى. وعليه، عُد نجاح حركة “طالبان” فى إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب الأمريكى من أفغانستان نموذجًا ملهمًا لفروع تنظيم “القاعدة” لاتباع النهج ذاته.
ورصدت الدراسة الدلالات المختلفة التى يمكن استعراضها على النحو التالي:
أولًا: أتاح تفشى فيروس “كورونا” فرصة للتنظيمات الإرهابية لتعزيز نشاطها وتوسيع نفوذها، إذ أسهمت الجائحة فى تقويض شرعية الحكومات، ولا سيما فى الدول محل الصراع، الأمر الذى وظفته التنظيمات الإرهابية، سواء على صعيد التجنيد أو على صعيد تكثيف العمليات الإرهابية، مستغلة الضغط الأمنى والصحى على الحكومات.
ثانيًا: يُعد تنظيم “القاعدة” وفروعه أكثر مرونة عقائدية وأيديولوجية من تنظيم “داعش”، واتضح ذلك فى قيام الأول بعقد تحالفات قبلية من ناحية وانفتاحه على التفاوض من ناحية أخرى. وارتباطًا بذلك أصدرت “القيادة العامة” لتنظيم “القاعدة” بيانًا فى مارس 2020 أشادت بالاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان باعتباره “نصرًا تاريخيًا عظيمًا” لطالبان. كما أصدر “أبو عبدالله الشامي” رئيس الهيئة الشرعية فى “هيئة تحرير الشام” فى سبتمبر 2020، بيانًا هنأ فيه طالبان على بدء المفاوضات مع الحكومة الأفغانية.
ثالثًا: من المُرجح أن يستغل تنظيم “داعش” هذا التحرك من جانب بعض فروع تنظيم “القاعدة” لكى يقدم نفسه كمتصدٍّ لمشاريع الغرب الاستعمارية، ويروج لأطروحاته باعتبارها الأكثر التزامًا من الناحية العقائدية. ومن ثَم، بدأ الأول بانتهاج استراتيجية إعلامية قائمة على انتقاد وفضح الثانى نتيجة سعيه لعقد اتفاقيات مع العدو. ما ينعكس على تصاعد الصراع بينهما فى مناطق عدة، ولا سيما غرب إفريقيا، وذلك فى ضوء سعى الأول إلى نقل مركز ثقله هناك.
رابعًا: تنقسم الاتجاهات المتعلقة بالتفاوض مع التنظيمات الإرهابية ما بين مؤيد ومعارض؛ فهناك اتجاه يتبنى الطرح القائم على أن اتباع نهج التفاوض مع التنظيمات الإرهابية من شأنه التحريض على مزيد من العنف، وهناك اتجاه معاكس ينطلق من قناعة مفادها أن نهج التفاوض قد يؤدى إلى حقن المزيد من الدماء، إلا أن ما يرجح هذا الاتجاه أو ذاك هو قوة أو ضعف الدولة من ناحية، ونفوذ التنظيم سواء على صعيد السيطرة على الأرض أو على صعيد القبول المجتمعى من ناحية ثانية.
فى النهاية أكدت الدراسة أن بعض فروع تنظيم “القاعدة” تسعى فى المناطق التى تنشط فيها إلى استغلال غياب الدولة لتقديم نفسها كبديل، معتمدة على خبراتها التنظيمية ومرونتها الأيديولوجية سعيًا لشرعنة وجودها فى إطار التعويل على استراتيجية تكتيكية جديدة، غير أن هذا التحرك لا بد من أن يواجه على عدد من المستويات، على رأسها المستوى الفكرى عبر تقديم رواية بديلة لطرح الأولى، وعلى المستوى الاقتصادى عبر تنمية المجتمعات وتحسين مستوى المعيشة، وعلى المستوى العسكرى عبر رفع كفاءة القوات الأمنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة