لماذا هاجم أم كلثوم وحارب فريد الأطرش ومحمد رشدى؟.. كيف منع حليم صديقه كمال الطويل من السفر خارج مصر لتلحين آخر أغانى فيلم «حكاية حب»؟.. عبدالوهاب لم يسلم من خناقات عبدالحليم ورد بعصبية على الجمهور الذى طلب منه أن يغنى لموسيقار الأجيال: «أنا اسمى عبدالحليم حافظ»
لماذا انقلب على محمد الموجى.. وكيف استغل المستفيدون من الخناقات سطوع نجم المطرب الصاعد هانى شاكر للوقيعة بينه وبين عبدالحليم.. الدكتور هشام عيسى طبيبه الخاص: فقد حياته الشخصية فعشق فنه وذاب فيه ونسى ضعفه أمام كل من اقترب لموهبته ورأى نفسه أنه الأحسن والأفضل
قصة غضب محمد الموجى من عبدالحليم والمعارك الوهمية بين العندليب وهانى شاكر
الموسيقار هانى مهنا: كاريزما حليم وحب الجميع له كانا وراء التصالح والتسامح بعد كل معركة فنية
رغم مرور 44 عاما على رحيله، ما زال غياب العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ يكثف حقيقة حضوره الدائم فى المشهد الغنائى فى مصر والعالم العربى، وما زالت رومانسية أغانيه هى أيقونة كل محب وكل عاشق.. ما زالت الحكايات عنه كثيرة، ومذكرات بعض الفنانين من أبناء جيله وحواراتهم تزدحم بالأسرار فى العلاقة معه، وبأسرار حياته الفنية ومعاركه التى خاضها ضد الجميع، لكى يبقى هو الأفضل والأحسن والرقم الأول والمتربع على قمة الغناء فى مصر والوطن العربى، ولجأ إلى كل الحيل والأساليب والأدوات التى تجعل منه فارس الأغنية الأول، والحكايات فى هذا المجال كثيرة.
رغم آلامه النفسية وأمراضه الجسدية وحياته الشخصية المؤلمة ورحلاته العلاجية المتعددة، فإنه كان يتحول إلى إنسان آخر تصل به قوته وصلابته فيها إلى حد الشراسة والقسوة فى معاركه الفنية، هذه الشراسة طالت أصدقاءه ورفقاء المشوار كما طالت منافسيه، لكن عند لحظة التصالح والتسامح تتبدى «كاريزما» حليم الرومانسية والمحببة والودودة بين أمواج الغضب، ليرضخ الجميع أمام حليم الإنسان، وهم يدركون جيدا قيمة حليم الفنان الذى اعتبر فنه هو كل شىء فى حياته، بل هو حياته ذاتها وابنه الذى لم يلده وأسرته التى افتقدها مبكرا ولم يكونها فى حياته أو يعيشها، وهو حياته الأخرى بعد مماته التى سوف تخلده.
فى حين رأها منافسوه أنها حب ذات مبالغ فيه، وغيرة متضخمة واستقواء غير مستحب بالعلاقة مع القيادة السياسية والزعيم جمال عبدالناصر.
أصدقاؤه الأحياء والأموات وطبيبه الخاص وعلماء نفس فى كتاباتهم وأحاديثهم وتصريحاتهم يفسرون أسرار «معارك حليم الفنية» التى تجاوزت حتى خطوط «كوكب الشرق» أم كلثوم، وأستاذه محمد عبدالوهاب وصديقيه المقربين إلى قلبه محمد الموجى وكمال الطويل، ورفقاءه ومنافسيه رجال وسيدات من وردة وحتى رشدى.
مقلب كمال الطويل
فى نهاية الثمانينيات وبدايات التسعينيات تعرفت على رفيق رحلة حليم وصديقه الأول عندما جاء إلى القاهرة للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين عام 43، وهو الموسيقار الكبير الراحل كمال الطويل، الذى كان يدرس فى قسم الغناء والأصوات، وتخرجا معا عام 1948.
وأجريت معه فى منزله بالزمالك، وأماكن أخرى حوارات مطولة حول الفن والأصدقاء، وبالطبع كان العندليب الأسمر عبدالحليم، القاسم المشترك فى حكايات الطويل.
كان الطويل يتحدث بعشق وحب دائما عن حليم، فقد كان يعتبره - كما قال لى خارج التسجيل «ابنى الصغير» - كمال الطويل من مواليد 11 أكتوبر 1923 أى أنه كان يكبر حليم بست سنوات، وخلال الجلسة حكى لى الطويل قصة مثيرة له مع حليم، ربما لم تنشر كثيرا، وربما أكتب عنها لأول مرة.
ففى أثناء تصوير فيلم «حكاية حب» عام 59 بطولة عبدالحليم ومريم فخر الدين وعبدالسلام النابلسى ومحمود المليجى، لم يتبق من أغانى الفيلم سوى الأغنية الأخيرة وهى «فى يوم فى شهر فى سنة»، التى كتبها مرسى جميل عزيز، ولحنها كمال الطويل، وفجأة شعر الطويل وقبل تلحين الأغنية بحالة ضيق وبالرغبة فى السفر، فدب خلاف وشجار بينه وبين حليم، الذى أصر على تلحين كمال للأغنية قبل السفر، وأمام إصرار الطويل على السفر، توعده حليم ضاحكا: «طيب يا كمال ابقى شوف تسافر إزاى..؟!».
وتعجب كمال من حليم، هل هو قادر بالفعل على منعه من السفر، فتمسك بقراره وأخذ حقيبة سفره، وتوجه إلى المطار، وكانت المفاجأة أن ضابط الجوازات استوقفه متعللا بتعليمات منعه من السفر، فعلا صوته فى صالة الجوازات، فجاءه ضابط برتبة كبيرة مبتسما له لتهدئته، موضحا له أن هناك سيارة خارج المطار فى انتظاره سوف تقله إلى أحد الأماكن السيادية المهمة.. استقل الطويل السيارة، وإذ به أمام مسؤول أمنى كبير، ربما كان اللواء شمس بدران - لا أتذكر الاسم الذى ذكره لى الموسيقار كمال الطويل - وبعد تبادل التحية والضحكات رفع المسؤول سماعة التليفون ليتصل بحليم، ويخبره بأن كمال موجود فى مكتبه، ثم أعطاه السماعة ليسمع ضحكات وقهقهات لا تتوقف من العندليب، ولم يتمالك نفسه وبعد حالة غضب، وجد نفسه يتبادل الضحك مع حليم الذى ذكره بتهديده المهذب «مش قلت لك يا كمال لحن الأغنية وبعدين سافر».. خلال حوارى ودردشتى مع الموسيقار الراحل سألته: «تفتكر يا أستاذ كمال ليه عبدالحليم عمل كده، وليه دخل فى خناقات فنية كثيرة.. إيه تفسيرك؟».
بعد فترة صمت وتفكير وسرحان، قال لى: «شوف أنا كنت بأتعامل مع حليم كأنه ابنى الصغير وحبى له معروف.. وأشار إلى المقعد الأرضى الذى كنت أجلس عليه.. هنا كان يجلس حليم، ويحكى لى شجنه، ويبث لى حزنه.. كان طول الوقت يتملكه إحساس وربما يقين بأنه سيموت صغيرا، وأنه لن يتزوج ويصبح لديه أولاد يخلدون اسمه من بعده.. ولذلك اعتبر فنه هو أسرته وزوجته وأبناؤه الذين يستحقون أن يقاتل ويتعارك ويتخانق من أجلهم.. ولذلك خاض معارك فنية كثيرة حتى معى، فموقفى معه كان أشبه إلى الاعتقال من أجل فنه..!! يضحك الأستاذ كمال الطويل.. ربما هذا هو التفسير النفسى الذى بررت لحليم خناقاته الكثيرة لدرجة الاعتقال والمنع والسطو على أغانى الغير.. علاوة بالطبع على «اليتم» الذى عاشه، وكان له التأثير الأكبر فى حياته.
معركة أغنية «على حسب وداد قلبى»
قصة أخرى حكاها الدكتور أيمن صلاح أبوسالم، فى أحد البرامج الإذاعية عن حكاية حليم مع أغنية «على حسب وداد قلبى يا بوى»، التى كتبها والده الكاتب الصحفى بالجمهورية، والشاعر الغنائى الأستاذ صلاح أبوسالم، وهو المؤلف الحقيقى للأغنية، وليس كما يشاع خطأ فى الكثير من مواقع المعلومات بأن مؤلفها الخال عبدالرحمن الأبنودى.
ففى بداية الستينيات بزغ نجم الشاب الفنان الريفى القادم من مدينة دسوق محمد رشدى، وذاع اسمه بلونه الشعبى الجديد فى الغناء، واهتمام الأبنودى وبليغ به حتى أصبح نجم الشباك، واحتلت صوره أغلفة المجلات الفنية، ورعاه كبار الكتاب أمثال رجاء النقاش ومحمد جلال، كتيار معبر عن الحالة الشعبية والمزاج الفنى المصرى منذ بدايات الستينيات بعيدا عن رومانسيات حليم.. وتسبب ذلك فى خفوت نجم حليم قليلا، ولم يغن أغنية واحدة ناجحة فى مواجهة رشدى، واتهم أصدقاءه بما فيهم مجدى العمروسى بالاهتمام برشدى على حسابه.
وذات مرة ذهب إليه بليغ حمدى ليطمئن عليه، وينصحه بضرورة الخروج من حالة الغضب والضيق التى يعيشها.. وبعد مناقشات.. سأل حليم بليغ عن آخر ألحانه، وكان بليغ دائم الاصطحاب لعوده.. فقال له بحسن نية وبراءة شديدة: «دى أغنية للصحفى صلاح أبوسالم، كتبها لمغنية شابة اسمها إلهام بديع، سوف تتقدم بها للإذاعة».. فطلب منه حليم أن يعزف مطلعها له.. وقبل أن يكمل بليغ هب حليم واقفا، وقال لبليغ «ماحدش هايغنى الأغنية دى غيرى».. فاضطرب بليغ واحتار، وأمام إصرار حليم طلب منه أن يتحدث مع صلاح أبوسالم، الذى فوجئ برنين تليفون المنزل وأن المتصل على الطرف الآخر عبدالحليم حافظ، يطلب منه الأغنية، وبعد إلحاح وإصرار حليم وإغرائه أيضا، وافق أبوسالم، وغنى حليم «على حسب وداد قلبى يا بوى.. راح أقول الزين سلامات»، ونالت الأغنية شهرة ضخمة، وأعادت حليم مرة أخرى إلى القمة و«نمبر وان».
قطيعة مع أم كلثوم
ومن ينسى معركته مع كوكب الشرق الست أم كلثوم، فقد هاجم حليم أم كلثوم فى إحدى الحفلات التى كان مشاركا فيها عندما ظلت تغنى حتى الساعات الأولى من اليوم التالى أمام جمال عبدالناصر فى عيد الثورة الثانى عشر عام 1964، متناسية أن عبدالحليم فى انتظار دوره من الساعة 12، ساعتها طلع حليم على المسرح وقال: «مش عارف كونى أختم الحفلة بعد أم كلثوم ده يعتبر شرف ولا مقلب»، والموقف ده تسبب فى قطيعة بينه وبين الست دامت 5 سنوات.. حتى كان الصلح والقبلة الشهيرة التى طبعها حليم على يد الست بعد إرضاء عبدالناصر له فى حفلة خاصة فى ذكرى تأميم القناة.
كابوس عبدالوهاب
حتى أستاذه وشريكه فى شركة صوت الفن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب لم يسلم من خناقات حليم، وتحول فى فترة من الفترات لكابوس يطارد عبدالحليم فى حفلاته، خاصة بعد ما تكرر موقف من الجمهور نحو 3 مرات فى 3 حفلات متفرقة، طالبوا فيها حليم بأن يغنى أغانى عبدالوهاب، وفى إحدى الحفلات بالإسكندرية كرر الجمهور نفس الطلب، فرد بعصبية: «أغانى عبدالوهاب يغنيها عبدالوهاب.. أنا اسمى عبدالحليم حافظ».
الخلاف الشهير مع فريد الأطرش
واشتبك عبدالحليم فى خلاف آخر مع فريد الأطرش، وربما يكون الخلاف الأشهر بينهما بسبب اللقاء التليفزيونى المعروف الذى تم بينهما لعقد جلسة صلح، لكن ربما لا يعرف الكثيرون السبب الرئيسى للخلاف، وهو حفلات شم النسيم، التى اعتاد فريد أن يحييها على مدار 25 سنة، لكن لظروف ما اضطر الأطرش أن يسافر بيروت سنة 1966، وتسلم العندليب الراية منه، حتى عاد عام 1970، وقرر أن يحيى حفل أعياد الربيع مرة ثانية، لكن حليم لم يعجبه قرار فريد، ودخلا فى خلاف اشتعلت نيرانه أكثر بعد قرار جمال عبدالناصر بإذاعة حفل فريد الأطرش على الهواء مباشرة، بينما تتم إذاعة حفل العندليب فى اليوم التالى مسجلا.
ثم كان الصلح الشهير فى لقاء تليفزيونى أداره الصحفى المعروف والشاعر جليل البندارى، وكان الصفاء والصلح بينهما.
حكايته مع رشدى
أما حكايته مع محمد رشدى، فقد استطاع الفتى الريفى أن يقض مضاجع حليم وينافسه بقوة، بل يحتل المرتبة الأولى لسنوات، ويهز عرش حليم الذى لم يهدأ له بال وبنفس التفسير النفسى حتى عاد مرة أخرى للقمة التى يعشقها ولا يتخلى عنها، صوت رشدى المميز وغناؤه الشعبى المتفرد والعجيب، وكلمات الأبنودى، وألحان بليغ حمدى، حققت لرشدى شعبية ضخمة، جاءت على حساب شعبية حليم فى الستينيات، واعتبر حليم ذلك حربا عليه، وأنه المقصود بشعبية رشدى، فأعلن الحرب على ابن دسوق، وكانت حربا باردة عظيمة، فى جانبها رشدى والنقاش ومحمد جلال، وطرفها الآخر القوى حليم وإحسان ومصطفى أمين، وبدأت الحرب الباردة باستقطاب حمزة وبليغ لإنتاج أغانٍ على طريقة رشدى مثل «سواح وزى الهوى»، ولكنها لم تنل الشهرة المطلوبة، وانتهت باتصال عبدالحليم بمسؤولين كبار لمنع إذاعة أغانى رشدى فى الراديو، حسب كلام محمد رشدى نفسه، وتخللها اصطحاب حليم لرشدى فى حفلات المغرب حتى لا يترك له الساحة وينفرد بها..!
لكن الأمر أيضا لم يخل من شائعات من أصحاب النفوس المريضة و«المستفيدين» لإزكاء الخلاف بين رشدى وحليم، فقد غنى حليم «كامل الأوصاف» عام 66 فى حفل بجامعة القاهرة وشاركه الغناء فى الحفل لأول مرة المطرب السورى فهد بلان، الذى سمعته السيدة أم كلثوم أثناء زيارتها لسوريا ولبنان، وأوصت الإعلامى الكبير جلال معوض صاحب فكرة أضواء المدينة أن يقدمه فى إحدى الحفلات والاهتمام به.. وفى حفلة حليم غنى فهد بلان أغنيته الشهيرة جدا «واشرح لها» وحققت نجاحا كبيرا وحقق شهرة سريعة فى مصر. لكن مروجى الشائعات رددوا أن حليم جاء بفهد بلان بسبب خوفه من رشدى، وأنه أحضر بلان للحد من نجاح رشدى أو القضاء عليه وهذا غير صحيح، لكن للأسف مستشارى رشدى صدقوا الشائعة.
صديق عمره الفنى الموسيقار محمد الموجى، ناله أيضا بعضا من قسوة حليم غير المقصودة.. فقد وصلت العلاقة بينهما عام 68 إلى ما يشبه القطيعة وانفردت ألحان بليغ حمدى لعبدالحليم بالسيطرة التامة على غنائه، وهو ما أصاب الموجى بالإحباط.. وفقا لرواية الشاعر المعروف مجدى نجيب، وحاول الموجى إذابة الجليد أكثر من مرة لكن دون جدوى، فقد يئس الموجى وأعلن أنه «سيذبح بقية ما فى قلبه من مشاعر الحب وينساه للأبد».. ويروى الموجى لنجيب فى كتابه «زمن الفن الجميل» أن السبب فى الخلاف «أن حليم يريد احتكار ألحانى لصوته فقط.. وهو ما رفضته» ويضيف فى غضب لم يتذكره بعد ذلك وعقب عودة المياه إلى مجاريها: «لا أقبل جحوده الإنسانى.. فلا تغتر برومانسيته.. إنها مجرد قناع يستخدمه أمام وجمهوره».. فقد رفض حليم طلب الموجى فى مبلغ من المال لشراء مستلزمات احتفال عيد ميلاد ابنته «غنوة» لكنه اعتذر، ورغم كل ذلك كان عبدالحليم يعلن للجميع تبرئة ساحته من غضب وزعل الموجى ويستعيد الذكريات الجميلة بينهما.. ويعود الموجى ليلحن «قارئة الفنجان» وغناها حليم فى حفل شم النسيم عام 76.
الحرب الوهمية مع هانى شاكر
ورغم الشائعات التى ترددت وانتشرت عن الحرب التى أعلنها عبدالحليم حافظ على هانى شاكر، فإن حليم وقبل رحلة علاجه الأخيرة ذهب إلى حفله بصحبة عمر الشريف، معلنا أنه حضر لمناصرة الصوت الجديد والاستماع إليه وكانت واحدة من التصرفات الذكية له، لإبعاد أى شبهة أو اتهام عنه وحتى لا يشوه صورته الجميلة فى عيون عشاقه وكأنه كان يكتب وصيته الأخيرة لمن سيتربع على عرش الغناء بعده، على الرغم من يقين حليم بأن ما تركه من غنائياته قادرة على الصمود أمام مقلديه الذين كان يعرف أنهم كانوا سيركبون على ظهر نجاح أعماله فى محاولات للعبور إلى المستمع العربى الذى سيعرف الفرق بين الأصل والاستنساخ.
وعندما أصبحت الساحة خالية أمام هانى شاكر بعد رحيل العندليب، كان هانى يحاول ابتلاع أحزانه - كما يقول مجدى نجيب - وهو يخبرنى أنه فقد حلاوة المنافسة التى كانت لها القدرة دائما فى مشاويره الغنائية.. قال هانى شاكر بحزن وأسى: «فقدت توأم روحى الذى أحبه، فماذا أفعل».
حارب «حليم» فى كل اتجاه حتى يصبح ملكا على عرش الغناء الرومانسى والشعبى والوطنى.. وعبر بذكائه الشخصى والفنى عن الحب بأصدق وأروع صوره، وعن الوطن الناهض والصاعد فى مواجهة التحديات، وفى معارك البناء والتنمية وصوت ناصر فى الشارع المصرى والعربى، وصوت العروبة فى المحافل الدولية.. وبالفعل مات حليم وعاش فنه يخلده، وما زال متربعا بصوته وصدقه الفنى وعشقه لفنه على قلوب ووجدان ملايين المصريين والعرب حتى إشعار آخر.. ربما لن يأتى!
هانى مهنا: ممنوع الاقتراب من فنه
الموسيقار هانى مهنا الذى صاحب حليم فى جزء كبير من مشواره الفنى واقترب منه كثيرا يفسر «الشراسة» التى خاض بها عبدالحليم معاركه الفنية بأنها تعبير قوى على مدى حب حليم لفنه، بل وعشقه له، وهو ما أعطاه قوة وصلابة فى مواجهة أى شخص مهما كانت درجة قربه أو اقترابه من حليم «اللى هايقف قدام فنه» يواجهه بشكل قوى ويخاطر بصورة غير طبيعية.
الفن بالنسبة لحليم كان بمثابة العبادة له بعد عبادة المولى سبحانه وتعالى، حتى لو كان أحد من أهله سيعطله عن فنه لا يتوانى فى العصف به.
هذه المنطقة تحديدا - أى منطقة الفن - هى محرابه ومعبده ممنوع الاقتراب منها، لأن شراسة حليم تظهر مستخدما سلاحه فى ذلك، وهو ذكاؤه المفرط، مثلما كان أستاذه عبدالوهاب يستخدم هذا السلاح الاجتماعى، بل تفوق على أستاذه فى أحيان كثيرة.
لكن فى الوقت ذاته - كما يقول هانى مهنا - كان حليم لديه كاريزما محببة تجعل الجميع يغفر له ويسامحه، وهو ما حدث بالفعل مع كل من خاض معه معركة فنية.
الدكتور هشام عيسى: فقد حياته الشخصية فدافع عن فنه بشراسة
الدكتور هشام عيسى كان الطبيب الخاص للعندليب عبدالحليم حافظ، وكان ضمن الطاقم الطبى المرافق للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكان متفرغا تماما لحالة عبدالحليم حافظ ومرافقا له فى معظم السفريات ومن شبه المقيمين فى منزل العندليب.. يقول: «حليم كان فاقدا لأشياء كثيرة فى حياته الشخصية ومنها الحياة الزوجية.. صحته الجسدية كانت أحد الأشياء التى أثرت عليه جدا، ولذلك أثناء إقامتى معه كان تحت إشرافى طوال الـ24 ساعة.. فمرضه لم يكن سهلا بالمرة، ولذلك لم نكن نفترق أبدا طوال فترة العلاج وكنت أنام عنده فى شقته وأرافقه فى سفرياته».
«إحساسه الدائم أنه يعيش تحت ظلال الخطر، جعل الفن كل شىء فى حياته، بل حياته ذاتها يدافع عنها بكل ما يملك لأنه فنان حقيقى يعشق فنه لدرجة الذوبان فيه، ولذلك كان يشعر دائما بأنه أفضل من كثير من الفنانين، بل ربما هو الأفضل على الإطلاق بسبب إخلاصه وإتقانه وتفانيه لفنه، وقد عايشت ذلك معه وكان يسألنى ويشاورنى فى بعض الألحان وأنا طبيبه وليس لى خبرة بالموسيقى ويعلن حالة الطوارئ عند كل لحن جديد، وهذا يفسر سر معاركه الفنية».
الدكتور إبراهيم مجدى حسين استشارى الطب النفسى بجامعة عين شمس: حليم نجومية لا تنتهى وذكاء اجتماعى حاد وموهبة مفرطة
الدكتور إبراهيم مجدى حسين، استشارى الطب النفسى بجامعة عين شمس، يقول: «بمناسبة اقتراب ذكرى ميلاد العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، خطرت فى بالى فكرة وهى ماذا لو كانت وسائل التواصل موجودة فى زمن الراحل عبدالحليم حافظ، وكيف كان سيستخدمها؟
أعتقد من خلال قراءتى لما كتب عن عبدالحليم ومشاهدتى لبعض لقاءاته التليفزيونية وحواراته الصحفية وأقوال المقربين منه، أنه ربما سيكون أكثر النجوم احترافا فى استخدام السوشيال ميديا أو بلغة العصر كان سيصبح تريند يومى، لأنه يملك ذكاء اجتماعيا حادا، وأدرك مفهوم صناعة النجم قبل غيره، فأحاط نفسه بزمرة رجال السياسة والسلطة والمثقفين وكبار الإعلاميين ونجوم المجتمع بجانب اختياره لفريق عمله من ملحنين وشعراء.. لم يكتف بالموهوبة فقط ولكنه امتلك الذكاء الاجتماعى».
ظهرت نظرية الذكاء الاجتماعى لأول مرة من قبل عالم النفس الأمريكى إدوارد ثورنديك فى عام 1920، وقد عرّفها على أنها «القدرة على فهم وإدارة الرجال والنساء والفتيان والفتيات للتصرف بحكمة فى العلاقات الإنسانية»، لا أحد يولد ذكى اجتماعيا، بدلا من ذلك، يتضمن مجموعة من المهارات التى يتعلمها الفرد بمرور الوقت.
ولو طبقنا هذا التعريف لوجدنا أن عبدالحليم حافظ نموذج مثالى للذكاء الاجتماعى، فعبدالحليم حافظ لم ينشأ مرفها، بل نشأ يتيما، تربى فى ملجأ، ولكنه استطاع التغلب على الصعاب والاستفادة من كل فرصة يحصل عليه، استطاع أن يستفيد من تجربة أخيه الأكبر المغنى إسماعيل شبانة، ويطور من التجربة ويصبح النجم الأول فى العالم العربى بلا منازع، نجم الجماهير والسلطة معا، فى معادلة غاية الصعوبة، مغنى الأغانى الوطنية، ومطرب الثورة الأول، ومغنى الأغانى العاطفية، لم يستطع أى مطرب فى العالم العربى حتى الآن الجمع بين الاثنين وأن يحفظ الشعب أغانيه الوطنية كأغانيه العاطفية.
كما ذكرنا لم تكن حياة العندليب مفروشة بالورود، ولكن حياة صعبة مليئة بالمرض، بالانكسارات والمواجهات، ولكن مع كل مواجهة يستطيع أن يخرج منها منتصرا.
كما قلت لكم إنه الذكاء الاجتماعى والقدرة على اكتساب الخبرات، هذا ليس مدحا بقدر ما هو حديث هنا عن شخص ناجح وكيف تربع على عرش النجاح لمدة سنوات، وما زال بعد موته منذ أكثر من أربعين عاما يثير الجدل، ويسعى أى مطرب ليكون مثله فى الشهرة والشعبية.
البعض يقول إن عبدالحليم حافظ رغم رقة وعذوبة أغانيه وأفلامه العاطفية وملامحه الطيبة إلا أنه كان صاحب شخصية قوية للغاية يدخل فى صراعات ويعرف كيف يقضى على خصومه، ويصور للجميع أنه الضحية، فدخل فى معارك جانبية مع أم كلثوم وفريد الأطرش ومع هانى شاكر فى بداياته.
حتى معركته مع المرض استطاع اكتساب التعاطف من خلالها، واستطاع مواجهة المرض حتى آخر لحظة، هذا ليس عيبا فى قواعد لعبة النجومية والشهرة.
نقطة أخرى وهى نقطة قدرية ليس لعبدالحليم حافظ دخل فيها، ولكنها ساعدته واستطاع أن يستفيد منها وهى اليتم «وفاة الأم» قبل أن يراها، والنشأة فى الملجأ، هذه الأشياء تجعل منك شخصا مختلفا يحاول الاستقواء بالنجاح وتعطى ملامح الحزن وتكسبك التعاطف.. ليس كل يتيم كذلك، ولكن نسبة منهم مَن ينجحون.
وليكن حديثنا عن «اليتم» وعلاقته بالإبداع والشهرة.. بعض الدراسات الأجنبية التى تناولت شخصيات المشاهير أكدت أن نسبة كبيرة منهم يتامى الأم أو الأب، فنجد أوباما وهتلر ومانديلا كانوا أيتاما.. وفى مصر كان جمال عبدالناصر يتيم الأم، وعبدالحليم يتيم الأم والأب، ولدينا أكبر وأعظم نموذج فى البشرية وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
السر هنا إلهى، فالله سبحانه وتعالى يمنح الأيتام عطية إلهية، ما يجعل الناس تحبهم وتعطف عليهم ويجعل لديهم ملكات خاصة ومواهب مثل الصوت الجميل وجمال الوجه والكاريزما والقدرة على الإقناع.
عبدالحليم كان لديه بعض النرجسية وحب الذات، وهذا ما يحفزه على البقاء فى المقدمة دائما.
الخلاصة أننا أمام شخصية تحمل قدرا من النرجسية المفيدة، لأن هناك نرجسية ضارة وجنون العظمة لدى الكثير من المشاهير.
تلك النرجسية التى تجعلك تهتم بصورتك الذهنية عند الناس وتحب النجومية والأضواء بجانب الاعتزاز بالنفس وحب الفخامة والكرم المبالغ فيه فى بعض الأحيان بجانب عدم الاهتمام بالنقد السلبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة