لم يصدق الناقد الكبير رجاء النقاش، عينه وهو يلتهم سطور رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب السودانى «الطيب صالح»، فكتب منفعلا بها مقاله «الطيب صالح عبقرية روائية جديدة» فى مجلة «المصور، القاهرة، 1 فبراير 1966».
كتب «النقاش»، مقاله بعد أن نشرت مجلة «الحوار اللبنانية» الرواية، ولم تكن صدرت بعد، ولم يكن «الطيب صالح» اسما معروفا فى الأوساط الأدبية العربية، كان عمره 37 عاما «مواليد 1929»، ومن شدة اندهاش «النقاش» من الرواية قال: «أتنقل بين شخصياتها النارية العنيفة النابضة بالحياة، وأتابع مواقفها الحارة المتفجرة، وبناءها الفنى الأصيل الجديد على الرواية العربية.. لم أتصور أننى أقرأ رواية كتبها فنان عربى شاب، ولم أتصور أن هذه الرواية الناضجة الفذة - فكرا وفنا - هى عمله الأول، لقد أخذتنى بين سطورها فى دوامة من السحر الفنى والفكرى، وصعدت بى إلى مرتفعات عالية من الخيال الفنى الروائى العظيم، وأطربتنى طربا حقيقيا بما فيها من غزارة شعرية رائعة، ولم أكد أنتهى من قـراءة الرواية، حتى تيقنت أننى - بلا أدنى مبالغة - أمام عبقرية جديدة فى ميدان الرواية العربية.. تولد كما يولد الفجر الجديد المشرق، وكما تولد الشمس الأفريقية الصريحة الناصعة».
تساءل النقاش: «من هو هذا الفنان الشاب، وما هى روايته؟.. إنه كاتب سودانى لم أسمع عنه ولم أقرأ له شيئا قبل هذه الرواية، واسمه الطيب صالح، أما روايته فاسمها «موسم الهجرة إلى الشمال».. وكل ما عرفته عن هذا الفنان الشاب أنه من مواليد 1929، وأنه تخرج فى إحدى الجامعات الإنجليزية» .
هكذا كان رجاء النقاش، أول من يقدم «الطيب صالح» إلى جمهور الرواية العربية دون أن يعرفه، وتوالت بعد ذلك إبداعاته ليقدم خمس روايات أخرى هى «عرس الزين»، و«منسى إنسان نادر على طريقته» و«ضو البيت» و«دومة ود حامد» و«نخلة على الجدول»، غير أن «موسم الهجرة إلى الشمال» التى تتناول علاقة «الشرق بالغرب» بقيت هى عنوان هذا المبدع المتفرد فى تاريخ الرواية العربية، ما سبب له المتاعب باعترافه هو فى حوارات صحفية كثيرة.
فى علاقتى التى امتدت لسنوات مع المفكر الكبير الراحل الدكتور جلال أمين، كنت أستمع منه بعض الحكايات عن علاقته به وجلسات السهر التى كانت تجمعه مع آخرين مثل رجاء النقاش والكاتب محمود سالم، أثناء زيارته إلى القاهرة، أذكر أننى سألته: «لماذا هو قليل الإبداع الروائى، بالرغم من موهبته المتفجرة؟».. أجاب: مشكلة «الطيب» أنه ميعرفش قيمة نفسه.
توفى «الطيب صالح» يوم 18 فبراير، مثل هذا اليوم، 2009، وفى يوم 5 مارس 2010 كتب جلال أمين مقالا بعنوان «ذكريات عن الطيب صالح»، يجيب بدقة أكثر عن سؤالى الذى طرحته عليه قبل سنوات.. قال: «الطيب صالح فى الحقيقة لا يعرف قدر نفسه تمام المعرفة، أو على الأقل ليس كما نعرفه نحن، ومن ثم فإنه يستغرب استغرابا حقيقيا من المديح والثناء، إنه بالطبع لا يغمط نفسه حقها، ولكنه يعرف جيدا أن فيه من أوجه الضعف ما فينا جميعا، ولا يحاول التظاهر بغير ذلك.. نعم، قد يكون كاتبا عظيما، ولكنه لم يخطر بباله قط - كما يخطر لكثير من الكتاب - إنه أعظم كاتب، أو حتى أنه كتب شيئا فريدا من نوعه».
يضيف «أمين»: «حضرت له مرة، محاضرة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث احتشد الطلاب والأساتذة المعجبون به «وكانت روايته موسم الهجرة إلى الشمال» تدرس سنويا للطلاب فيعشقونها عشقا، وتُرك له أن يختار موضوع الحديث فاختار له عنوان «تفاهة أن يكون المرء كاتبا»، وحكى لنا بعض القصص الطريفة جدا من حياته والدالة على ذلك، فقال: إنه كلما حدث له شىء أو سمع ثناء يجعله يمتلئ غرورا، يحدث بعده بقليل شىء آخر أو يسمع قولا آخر يرده إلى صوابه، وضرب على ذلك بعض الأمثلة، ومنها أنه عندما سافر من لندن إلى الخرطوم ليتسلم جائزة قيمة، وذهب لزيارة خالة له فى قريتها، فوجئ بها تسأله: «ما هو عملك بالضبط؟».. وشرح هذا بقوله، إن خالته فى حياتها البسيطة فى الريف تفهم أن يكون المرء طبيبا أو مهندسا أو مدرسا، ولكن أن يكسب المرء رزقه من كتابة حكايات وقصص، مثلما يفعل، فهذا ما لم يكن يخطر ببالها أنه ممكن».
يؤكد «أمين»: «سمعته مرة يقول شيئا استغربته بشدة لأول وهلة ثم فهمته وتعاطفت معه، قال: «إنه فى الحقيقة يجد الكتابة عملية شاقة، بل لعله استخدم كلمة «العذاب» فى وصف ما يلاقيه منها، وأنه يحب القراءة أكثر بكثير مما يحب الكتابة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة