«كان مقيد اليدين، يدفعه حراسه ويضربونه بكعوب بنادقهم، فيسقط على الأرض ثم يجذبونه من شعر رأسه، ليقف، فيلاقى الضرب والركل من جديد، ولكن نظرات لومومبا وملامح وجهه كانت تعكس كل معانى التحدى والشموخ والكبرياء».
هكذا يصف محمد فايق، فى كتابه «عبدالناصر والثورة الأفريقية» المشاهد الختامية لحياة الزعيم الأفريقى، باتريس لومومبا، قائد الحركة الوطنية فى الكونغو، ورئيس حكومتها، كان «فايق» رئيسا للشؤون الأفريقية فى رئاسة الجمهورية، وممن تعاملوا عن قرب مع «لومومبا»، ويذكر فى كتابه ما رآه على شاشات التليفزيون أثناء اقتياده إلى حتفه يوم 17 يناير 1961، حيث استطاع أحد المصورين تصوير هذه المأساة.
كان «لومومبا» قائدا لنضال بلاده لتحريرها من سيطرة الاستعمار البلجيكى، الذى ارتكب جرائم، منها كما يذكر «فائق»: «فى يناير سنة 1960 وعندما تقرر استقلال الكونغو، لم يكن هناك واحد من الوطنيين يشغل منصبا فى الحكومة، ولم تكن هناك أعداد تذكر من الأفريقيين خريجى الجامعات، ولا يوجد وطنى واحد برتبة ضابط فى الجيش الكونغولى».
قاد «لومومبا» النضال من أجل تغيير هذه المعادلة، بدعم من مصر وبإعجاب منه بعبدالناصر، وأسس حزب «الحركة الوطنية الكونغولية»، وفاز بانتخابات عام 1960، وأصبح رئيسا للوزراء، لكن بلجيكا والمخابرات الأمريكية صممتا على إجهاض تجربته، كان الدكتور مراد غالب سفيرا لمصر وقتئذ فى الكونغو، ويسجل شهادته فى مذكراته «مع عبدالناصر والسادات»، يقول: «أقدم كازافوبو رئيس الجمهورية على خلع لومومبا من منصبه كرئيس للوزراء، ورد لومومبا عليه بعدم الاعتراف به رئيسا، وبدأت حالة الفوضى فى البلاد بإعلان تشومبى، حاكم إقليم كاتنجا، انفصاله، وكان أغنى أقاليم البلاد، وتتركز فيه غالبية الشركات البلجيكية، خاصة العاملة فى المناجم، وبدأت عملية محكمة لمحاصرة لومومبا».
يضيف غالب: «استطاع لومومبا أن يفلت من طوق الحصار المفروض من حوله، ويهرب فى منزل بوسط العاصمة ليوبولدفيل، وبعث إلىِّ برسالة تعرفنى بمكانه، ووصلت إلى مخبئه، ووجدت حالته سيئة للغاية، وكانت عيناه زائغتين»، يؤكد «غالب» أنه كتب برقية فى الحال إلى «عبدالناصر»، أبلغه فيها أن «لومومبا» على قيد الحياة عكس الأنباء التى تداولت بمقتله، وأنه يرغب فى نقل زوجته وأولاده إلى مصر، وأنه أصبح المصدر الوحيد لأخباره.
تلقى «غالب» الموافقة على طلب لومومبا، وبدأ فى وضع خطة لتهريب أبنائه، وكان بطلها عبدالعزيز إسحق المستشار بالسفارة المصرية، وصاحب الملامح الأوروبية، حيث تم التسجيل فى جواز سفره بأنه متزوج من كونغولية، وأنه يصطحب أبناءه معه للسفر إلى لشبونة، واستندت العملية إلى انتظار تنفيذها أثناء مجىء دور الكتيبة السودانية فى قوات الأمم المتحدة للسيطرة على المطار.
يذكر «غالب»: «كانت التعليمات لإسحق، بأن يتجاهل النداء الأول والثانى والثالث بصعود الركاب للطائرة المسافرة إلى لشبونة، ولا يظهر إلا قبل إقلاعها بثوان مع عائلته، ويجرى بهم ليلحق بها فى آخر ثوان، بحيث يجعل العاملين فى المطار فى موقف المساعدة لهم».
تم تهريب الأبناء بنجاح، وبقى «لومومبا» يخوض مقاومته، حتى اغتياله يوم 17 يناير 1961، وفقا لمحمد حسنين هيكل فى كتابه «سنوات الغليان»، مضيفا، أن عبدالناصر تلقى مساء 12 فبراير، مثل هذا اليوم، 1961 معلومات تؤكد مقتل لومومبا بالرصاص بعد اعتقاله، وأن الذى اعتقله هو الكولونيل موبوتو، قائد قواته، والرئيس فيما بعد، وقام بتسلميه فى نفس اليوم إلى عدوه «تشومبى» فى كاتنجا.
يؤكد «هيكل»، أن «عبدالناصر» هو الذى أكد للعالم رسميا نبأ مقتل لومومبا، وأعلن أنه يضع أسرته تحت حماية الجمهورية العربية المتحدة، وكتبت السيدة «بولين»، زوجة لومومبا، خطابا إلى عبدالناصر، قالت فيه: «إننى امرأة لم تتعلم لأن الاستعماريين البلجيكيين حرمونا من فرصة الحصول عليه، لكنى مع إدراكى البسيط أفهم مثل كل امرأة وطنية فى أفريقيا، أنكم أوفى الأصدقاء لشعوبنا، إننى بلسان امرأة- والمرأة هى موضع أسرار الرجل- أؤكد لكم أننا عرفنا الآن أصدقاءنا الحقيقيين، والله معك».
وكتب شقيقه «لويس»: «يا صاحب الفخامة، إذا كان خطابى هذا لا يحمل جميع معانى الاحترام الواجب تقديمها لشخصكم، فأرجو ألا يفسر ذلك بقلة العناية، ولكن بأننى أتعامل معكم كشقيق وراع ورجل أفريقى لم يتنازل عن روحه الأفريقية، إن وقوفكم معنا ضربة لكل من أرادوا أن يوقعوا بيننا وبينكم حينما أرادوا إقناعنا أن العربى هو عدو للسود، وأن العرب كانوا أصل فكرة الاتجار ببنى البشر فى تجارة الرقيق، ولقد تأكدوا أن ذلك غير صحيح، ونحن نرى أمامنا أن البرتغاليين وهم شعب مسيحى كانوا هم تجار الرقيق فى بلادنا، وكانوا يقومون بذلك بأمر من ملوكهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة