سهر السودان كله مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم يوم 26 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1968 فى حفلتها الأولى على المسرح القومى المكشوف فى أم درمان بعد توسيعه، وفقا لجريدة «الأهرام» 27 ديسمبر 1968، وفى صباح يوم الحفل زارت القصر الجمهورى، يرافقها السفير المصرى الدكتور كمال خليل، وقيدت اسمها فى دفتر الزيارات تحية لرئيس مجلس السيادة إسماعيل الأزهرى، الذى زراها بعد وصولها لقصر الضيافة التى تقيم فيه، وبعد عودتها توافدت عليها 600 سيدة من سيدات الخرطوم يمثلن جمعياتها وهيئاتها النسائية، وخرج إلى أسواق السودان كتاب عنوانه «موحدة العرب.. السيدة أم كلثوم»، تأليف حسين الطاهر.
كان الكاتب الصحفى أحمد بهجت، ضمن الوفد الإعلامى المرافق لها، وفى تقريره بـ«الأهرام»، 28 ديسمبر 1968، يذكر أن الصحف السودانية يوم 27 ديسمبر، لا حديث لها إلا عن أم كلثوم وفنها، وحفلتها الأولى، يضيف: «الذين أسعدهم الحظ استطاعوا حجز أحد المقاعد الـ 7 آلاف التى ملأت المسرح، والذين لم يستطيعوا استمعوا إليها وطربوا مع «الأطلال» و«هذه ليلتى»، وكان بين الحاضرين إسماعيل الأزهرى وأعضاء مجلس السيادة، وعلى عبدالرحمن، نائب رئيس الوزراء والوزراء وقريناتهم».
كان محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء السودانى موجودا فى لندن للعلاج، فأرسلت إليه برقية من الخرطوم تتمنى له الشفاء العاجل، يصف «بهجت» تفاعل الجمهور معها وتفاعلها معه أثناء غنائها، قائلا: «كان صعبا وسط انفعال الجمهور وتأثره أن تعرف أن الجو مال للبرودة، ولم تكن أم كلثوم يوما ما بهذا التألق والصفاء والانفعال والسيطرة على الأداء، واستعاد الجمهور كل جزء من أغنيتى أم كلثوم 4 مرات، وبعد إسدال الستار ارتفع هدير المعجبين، وأزيح الستار لتخرج أم كلثوم للجمهور مرتين»، يؤكد بهجت: «لم يتمالك كثيرون من أعضاء البعثة المرافقة أنفسهم مقاومة البكاء أمام كلمات وزارة الثقافة التى قالت وهى تخاطب أم كلثوم: «إن مدلول هذا اللقاء التاريخى أيتها السيدة الجليلة هو رمز من رموز حياتنا فى السودان، وقد منح فنك مشاعرنا معنى جميلا وبعيدا، قوامه النبل والعاطفة الإنسانية، وكسر حواجز السن والطبقية فى سبيل وحدة العرب»، يضيف بهجت: «انتشرت نكتة فى السودان تقول: «إن تماسيح الجنوب قررت أن تنتخب من بينها 5 تماسيح، وتتوجه إلى الخرطوم وتسلم نفسها لأم كلثوم لتصنع من جلدها حقائب تعبيرا عن الحب».
قدمت حفلها الثانى يوم 30 ديسمبر 1968 فى الخرطوم وحضره آلاف أيضا، وكان الكاتب والناقد رجاء النقاش من المرافقين لها، واستوقفه حضور الآلاف فى الحفلتين وحرارة الجمهور نحوها الذى يعد ظاهرة شاملة فى الوطن العربى، وفقا لما يذكره فى كتابه «لغز أم كلثوم»، مضيفا أنه توجه بسؤال عن تفسير كل هذا إلى كتاب وشعراء ومفكرين سودانيين وعرب حضروا الحفلتين، فأجاب الشاعر السودانى الكبير محمد المهدى المجذوب: «أم كلثوم فى نظرى مثل ديوان الشاعر أحمد شوقى، فديوان شوقى يحظى بإجماع فنى وأدبى، وسيظل باقيا فى أذهان العرب ونحن نعود إليه إذا أردنا أن نعود إلى جوهر العلاقة الأصيلة بين المواطنين العرب فى كل مكان».
أضاف «المجذوب»: «نجحت أم كلثوم فى السودان نجاحا كبيرا وهزت جماهيرنا هزة وجدانية عنيفة، وذلك على عكس ما كان البعض يتصوره، وفى ظنى أن السبب الأكبر فى ذلك بالإضافة إلى فنها العظيم هو أنها مست الإحساس العربى عند السودانيين مسا مباشرا، بنطقها العربى السليم وباختيارها للقصائد العربية الممتازة، وبأدائها المرتبط فى أصوله بتجويد القرآن، زيارة أم كلثوم رفعت بلا مبالغة من شأن الثقافة العربية فى السودان، فالاحتفال بها كان مهرجانا عاليا للثقافة العربية، وهذا ولا شك سيكون له أكبر الأثر فى السودان حتى على الناطقين بغير اللغة العربية».
وقال الكاتب اللبنانى أمين الأعور: «صوتها يمثل قمة حلقة التراث الكلاسيكى العربى الغنائى، هى وحدها تمثل التراث الغنائى العربى فى أنقى صوره وأجملها، هى وحدها سيدة الغناء العربى بتقاليده اللامعة»، انتقل «الأعور» إلى زاوية أخرى قائلا: «فى السودان بالذات أخذت حفلات أم كلثوم طابعا فنيا وسياسيا فى وقت واحد، ولعلنا نلاحظ أن صحيفة الإخوان المسلمين وهى صحيفة «الميثاق» وحدها التى شنت هجوما عنيفا على أم كلثوم، باعتبارها رمزا للتراث القومى العربى، وهاجمها «الإخوان» رغم أنها «أم كلثوم» تعتبر الرجل الأول النموذجى فى رأيها هو «محمد» عليه السلام، والمرأة النموذجية المثالية هى «خديجة»، وتعتبر «الشريف الراضى» وهو من آل بيت الرسول شاعرها النموذجى، فلماذا إذن تهاجمها «الجماعة»؟!
يجيب: «السبب سياسى واضح، ففى فن أم كلثوم وفى آرائها ومواقفها المختلفة نجد ارتباطا بين الإسلام والعروبة، والاخوان لا يؤمنون بالعروبة، هم يريدون إسلاما ضد العروبة وضد قومية العرب، وضد آمال الشعوب العربية، لأنهم يؤمنون بشىء آخر هو ما يسمونه القومية الإسلامية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة