تحت عريشة تظل أعوادها وأهداب سعفها من يجلس أسفلها عن الشمس، وواجهته نحو امتداد هادئ لشاطئ "الغرقانة" بمحمية نبق شمال مدينة شرم الشيخ بجنوب سيناء، يجلس الصديقان "عوده وعيد"، يفترشون الأرض وبالقرب منهم كومة جمر تحتضن دلة شاي، ما أن يمر عابر وقادم لزيارة المحمية حتى تصله أصواتهم منادية: "تفضل".
"عيد" الستيني، وصديقه "عوده" الأصغر منه سنا، من بين عشرات صيادين الأسماك بمحمية نبق، وجميعهم من أبناء المكان من قبيلة "مزينة" إحدى أكبر قبائل جنوب سيناء، توارثوا عن أجدادهم حياة الصيد، ولم تقف أعمال تطوير المكان وازدهار السياحة وتغير الكثير من المعالم حائلا أمام بساطة عيشهم، بعضهم يقيم فى المحمية ويعتمد فى معيشته على صيد السمك، وآخرين ممن يبعدون عن المكان يحضرون ويقيمون لأيام، وجميعهم يعتمدون على الصيد بالشباك وتجميع رزق البحر لتناوله طازجًا، وتقديمه واجب وكرم ضيافة لكل من يحضر من الزوار والبعض يقتطع كميات منه لينقله ويبيعه كمصدر رزق .
قال عيد المزيني، إنه منذ 45 عاما وهو يمارس مهنة الصيد على شاطئ الغرقانة وهو اسم الشاطئ بمحمية نبق الذى فيه تعطلت سفينة شحن ألمانية قبل نحو نصف قرن، ولا تزال هياكلها قائمة وفى إشارة لمشهدها يطلق البدو ساكنين المكان "الغرقانة" على المكان.
وأوضح صديقه عوده، إنه يعتبر هذا المكان أفضل مكان فى شرم الشيخ، لافتًا إلى إنه يحضر ويمكث لفترات طويلة ويقيم فى عشه على الشاطئ، ويصطاد السمك فجر كل يوم وأحيانا أخره، يصطاد ما يكفى معيشته ومن يزوره.
وتابع الحديث صديقه "عوده" إنهم يصطادون كل أنواع السمك التى تجلبها شباكهم من مياه البحر، التى فيها يقضون ساعات طويلة بحثا عن الرزق، لافتا إلى أن من أهمها سمك "الشعور والحريد والسيزان".
وقال: "خير ربنا كثير وأى حد بييجى عندنا بياكل سمك وكله من خير الكريم"، وتابع حديثه بالتأكيد، إنهم سعداء بما شهدته المحمية من تطوير للعشش التى يقيمون فيها، لافتا إلى انهم كانوا يأتون ويبنون عششا عشوائية لتحميهم من حرارة الشمس وتقلبات البرد، والآن أقامت لهم الدولة عشش مجهزة ومبنية بشكل مناسب وهى ملك عام للجميع.
وبدوره أشار الخبير السياحى بمحمية نبق "موسى سالم"، إلى أن محمية نبق يطلق عليها البدو سكان المكان اسم "ابونجيله"، وهى المتنفس الطبيعى للأهالى من البدو ابناء شرم الشيخ وغيرها من المناطق المحيطة بها، حيث تتميز بالهدوء والخصوصية ويحضر للمكان كثير من المجموعات والأسر يعيشون الحياة الطبيعية فى هدوء تام يحصلون على الأسماك من الصيادين ويقومون بتجهيزها على نار الحطب ويقضون يوما أو أكثر وسط أجواء طبيعية.
وأضاف أن وزارة البيئة قدمت أهم خدمة لزوار المكان والمقيمين فيه من الصيادين وهى إقامة نحو 40 عشة بمساحة 50 مترا للعشة الواحدة، والتى اتخذها الصيادين مكانا وموطنا لهم، مشيرا إلى أن الصياد يأتى ومعه أدوات معيشته البسيطة ويقيم فيها لعدة أيام يقوم بصيد السمك الذى هو طعام له ومن يستضيفه يقدمه مجانا، وبيع جزء آخر ليوفر مصدر رزق يعود به لأسرته فى نهاية رحلته.
وقال "رفعت على"، وهو دليل سياحي، انه مقيم فى جنوب سيناء منذ حوالى 20 عاما، وخلال عمله فى نشاط السياحة ومرافقة السائحين الأجانب لتعريفهم بالأماكن، تكون من بين واجهاتهم محمية نبق وبعد جولاتهم فى أركانها وزيارة معالمها الجبلية ورحلات السير بين الصخور ثم مشاهد غابات المانجروف مشهد السفينة الغارقة ورحلات الغوص، يتوقفون أمام عشش الصيادين و يأخذون قسطا من الراحة ويشاهد السائحون طبيعة البدو البسطاء من الصيادين وهم بكرمهم يقدمون لهم مشروبهم الطبيعى من الشاى و القهوة وشاى الأعشاب المعروف باسم "الحبق".
وأضاف إنه طوال فترة إقامته وعمله فى جنوب سيناء، استوقفه طيبة وبساطة سكان المكان والذين يستفيد من خبراتهم كثيرا فى معرفة الأماكن والاستدلال عليها وتاريخها، خصوصا العيون والآبار الطبيعية وغيرها من الدروب والمسالك الصحراوية.
وتحتفظ ذاكرة الصيادين فى محمية نبق بقصة أشهر صياد لا تزال آثاره باقية فى المكان وهى سيارة قديمة، وعريشة من جريد النخيل، ومساحة محاطة بعلامات صخرية كان يتخذها مسجدا للصلاة، وهو الصياد الشيخ عتيق المزيني، الذى هجر كل ما حوله معتكفا فى هذا المكان يقتات على صيد السمك ويطعم زائريه حتى انه بعد رحيله لايزال فى المحمية مكان يحمل اسمه "آثار الشيخ عتيق" ليضاف لأسماء كثيرة يتداول ترديدها عن مسميات محمية نبق بين الأهالى وهى "الكوز، والغرقانة، وأبو نجيله، وروض رحيله ، والدقل، والعرايش، والغرابى، والقبيلة، وعموم المنطقة اسمها بلهجة أهل المكان " الطارف".
ويقول الصيادون إن "الشيخ عتيق"، من مواليد عام 1933، وهو صياد من سكان مدينة دهب، كان يحضر للصيد ويعود لبيته كبقية الصيادين فى رحلاتهم اليومية بحثا عن رزقهم، ولكنه فى عام 1985 ، انقطعت عودته وبقى فى هذا المكان، معتكفا وخادما لزواره ومحافظا على طبيعته فى صمت، وأقام فى عريش بسيط يبعد امتارا قليلة عن حافة البحر، كلما دعت الحاجة للحصول على طعام يشمر عن ساعديه وبشبكته البسيطة يلتقط رزقه من البحر، وينقل من الوديان المجاورة ما يلزمه من مياه الشرب مستقلا سيارته ماركة بيجو القديمة، ولم يكن له أبناء، و قضى فى هذا المكان منقطعا فيه بشكل كلى نحو 25 عاما، حيث وافته المنية فى 25-12-2012، ومع رحيله لم ترحل ذكراه مع كل من عرفه، كما لم ترحل آثار حياته البسيطة واصبحت جانب من مكونات المحمية، وآثاره نالت اهتمام الدولة أثناء تطوير المحمية، ممثلة فى وزارة البيئة ووضعت ضمن المزارات الرئيسية، وبقيت كما هى وتضم هذه الآثار عريشته وأدوات معيشته وسيارته التقليدية القديمة، ومكان مسجده الذى كان يصلى فيه.
وكانت وزارة البيئة أطلقت مشروع تطوير قرية الصيادين (الغرقانة) بتكلفة تقدر بحوالى 50 مليون جنيه بمحمية نبق بمحافظة جنوب سيناء، ذلك بالتعاون مع مشروع تعزيز نظم تمويل وإدارة المحميات الطبيعية فى مصر الذى تنفذه الوزارة.
وأعلنت الوزارة فى وقت سابق أن المشروع يهدف إلى نقل قرية الصيادين، من الخط الساحلى إلى مسافة 200 متر فى الداخل، بالإضافة إلى تحسين الظروف المعيشية والبيئة العمرانية للمجتمع المحلى.
يذكر أن محمية نبق التى أعلنت رسميا محمية طبيعية فى عام 1992، وتصل مساحتها 600كم2 (منها 440 كم2 فى اليابس بالإضافة إلى 130 كم2 فى النطاق المائي)، وتقع هذه المحمية على خليج العقبة فى المنطقة ما بين شرم الشيخ ودهب ووادى أم عدوى فى جنوب سيناء، وتبعد المحمية 35 كيلو متراً شمال شرم الشيخ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة