ما الذى نعرفه عن كرة القدم الحديثة، تلك التي بدأت تحكمها القوانين، وخرجت بها إلى ما نطلق عليه الآن عالم الاحتراف، الذى بدأ منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، هذا ما يحدثنا عنه كتاب "إدواردو جاليانو" فى كتابه "كرة القدم بين الظل والشمس" الذى ترجمه صالح علمانى.
يقول الكتاب تحت عنوان "قواعد اللعبة"
بعد قرون طويلة من الإنكار الرسمى، انتهى الأمر بالجزر البريطانية إلى الإقرار بوجود كرة القدم، ففى زمن الملكة فيكتوريا لم تعد كرة القدم مجرد رذيلة جماعية يمارسها الرعاع وحدهم، وإنما صارت كذلك فضيلة ارستقراطية، فقادة المجتمع المستقبليون كانوا يتدربون على الفوز بلعب كرة القدم فى باحات المدارس والجامعات، وكان أشبال الطبقة الراقية ينفسون هناك عن اندفاعات حماسهم الشبابى، ويصلبون انضباطهم ويقيسون شجاعتهم ويشحذون دهاءهم، وفى الطرف الآخر من السلم الاجتماعى، لم يكن البروليتاريون بحاجة إلى إنهاك أجسادهم، لأن المصانع والورش كانت قد وجدت لتحقيق ذلك، ولكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، هوى الجماهير، توفر تسلية وعزاء الفقراء، وتبعدهم عن الاضرابات، وعن الأفكار الخبيثة الأخرى.
كرة القدم فى شكلها الحديث تنحدر من اتفاق جنتلمان بين اثنى عشر ناديا انجليزيا توصلوا إليه فى خريف عام 1863 فى إحدى حانات لندن، وقد تبنت تلك الأندية القواعد التى كانت قد أقرتها جامعة كامبردج فى عام 1846 ففى كامبردج، تم الطلاق النهائى ما بين كرة القدم والرجبى، فقد منع حمل الكرة باليد، مع أنه كان مسموحا لمسها، ومنع كذلك توجيه الركلات إلى الخصم، فركلات الأقدام يجب أن توجه إلى الكرة فقط، هذا ما تنبه إليه إحدى القواعد، وبعد مرور قرن ونصف قرن على ذلك، لا يزال هناك لاعبون حتى اليوم يخطئون ما بين الكرة ورأس خصمهم، بسبب تشابه شكليهما.
اتفاق لندن لم يحدد عدد اللاعبين، ولا أبعاد الملعب، ولا ارتفاع المرمى، ولا مدة المباراة، فقد كانت المباريات تستمر ساعتين أو ثلاث ساعات، وكان أبطالها يتبادلون الحديث والتدخين حين تكون الكرة بعيدة، ولكن التسلل كان معروفا، فقد كان من غير المقبول تسجيل أهداف من وراء ظهر الخصم.
فى ذلك الزمان لم يكن أحد يشغل مكانا معينا فى أرض الملعب، فالجميع كانوا يركضون مبتهجين وراء الكرة، وكل شخص يذهب حيث يشاء ويبدل موقعه حسب مشيئته، وقد بدأ تنظيم الفرق فى اسكتلندا فى حوالى 1870 وتوزيعها فى مهمة الدفاع وخطى الوسط والهجوم، وفى أثناء ذلك كان عدد اللاعبين قد تحدد بأحد عشر لاعبا، ولم يعد بإمكان أى منهم لمس الكرة بيده منذ عام 1869 حتى ولو لوقفها أو إيصالها إلى القدم، ولكن فى عام 1871 ولد حارس المرمى ليكون الاستثناء الوحيد فى هذا التحريم، إذ يمكنه حماية مرماه بكل أعضاء جسده.
كان حارس المرمى يحرس حصنا مربعا: كان طول المرمى أقصر من المرمى الحالى وارتفاعه أعلى منه بكثير، ويتألف من أعمده متصلة بشريط قماشى على ارتفاع خمسة أمتار ونصف. ثم استبدل الشريط القماشى بعارضة خشبية فى عام 1875، وكانت الأهداف تسجل على قائم المرمى بحفر خطوط صغيرة، وتعبير "تسجيل هدف" ما زال مستخدما، بالرغم من أن الأهداف لم تعد تسجل اليوم على قائم المرمى، وإنما ترصدها لوحات إليكترونية فى الاستادات، والمرمى المؤلف من زوايا قائمة ليس له شكل القوس، ولكنهم ما زالوا يطلقون عليه فى بعض البلدان تسمية القوس وعلى من يدافع عنه اسم حارس القوس، ربما لأن تلاميذ المدارس الإنجليزية كانوا يستخدمون قناطر باحات مدارسهم بدلا من المرمى.
وفى عام 1872 ظهر الحكم، وكان اللاعبون حتى ذلك الحين هم حكام أنفسهم، فهم أنفسهم يفرضون العقوبات على المخالفات التى تحدث. وفى عام 1880 كانت لديه سلطة طرد من يسيئ التصرف خارجا، ولكنه لا يزال يوجه المباراة بإطلاق الصرخات من خارج الملعب، وفى عام 1891 دخل الحكم لأول مرة إلى الملعب نافخا فى الصفارة وأقرت أول ضربة جزاء فى التاريخ حين خطا الحكم اثنتى عشرة خطوة محددا نقطة توجيه الضربة.
وقبل سنوات من ذلك كانت الصحافة الانجليزية تشن حملة لصالح إقرار ضربة الجزاء، فقد كان لا بد من توفير الحماية للاعبين عند فم المرمى الذى كان مسرحا لمجازر دامية، وكانت مجلة ويستمنستر جازيت قد نشرت قائمة مرعبة بأسماء اللاعبين الذين قضوا نحبهم أو تكسرت عظامهم هناك.
وعندما مات القرن التاسع عشر انتهى معه الاحتكار البريطانى لكرة القدم، ففى عام 1904 ولدت الفيفا، أى الاتحاد الدولى لكرة القدم، التى صارت تحكم منذ ذلك الحين العلاقة ما بين الكرة والقدم فى العالم بأسره، وعلى امتداد بطولات العالم المتتالية أدخلت الفيفا تعديلات قليلة على تلك القواعد البريطانية التى نظمت اللعبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة