فى ثنايا الحوار القصير الذى أجراه الناشط وائل غنيم مع والده المهندس سعيد عباس غنيم تقفز إلى الأذهان مجموعة من المشاهد المتتالية أصبحت جزء من ذاكرة مصر عن عمليات التجنيد السياسى التى نفذتها التنظيمات الدينية بتنويعاتها المختلفة خلال ما يزيد عن الـ30 عاما، كان الحوار عفويا بين أب ترك لأبنه حرية الاختيار وابن وقع فى الفخ للحظات ثم استفاق سريعا بعدما مزق لوحات المنزل ودمر تماثيل فنية بحجة أنها أصنام.
وائل غنيم فى هذا الحوار تناول رحلته التى مر بها آلاف الشباب المصريين فى بداية الألفية، حيث الارتحال من التبليغ والدعوة إلى الإخوان وفى المسافة بينهم مئات الأفكار عن تحريم الغناء وتكفير مبطن للدولة دون أى تحرك رسمى يذكر، ليبقى المجال مفتوحا أمام التيارات الدينية وعلى رأسها الإخوان ليفعلوا ما يحلوا لهم، سواء بالكاسيت فى الثمانينات أو بالإنترنت فى بداية الألفية.
ثلاثية الشيخ والكاسيت والتنظيم
ارتبطت عملية التجنيد لدى التيارات الدينية منذ منتصف الثمانينات بمجموعة من الظواهر، فلابد من وجود داعية أو شيخ يحظى بشعبية واسعة ولا يعلن صراحة أنه مرتبط بالتنظيم، ولابد أيضا من وجود الية للتداول والانتشار تتطور بتطور الزمان، وأخرا لابد من وجود ماكينة تنظيمية تحشد الشعبية للشيخ وتروج منتجاته عبر الية التداول، ثم تحصد الثمار عبر تجنيد القادمين الجدد.
هذه الثلاثية حققها الإخوان أكثر من مرة منذ منتصف الثمانينات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية، ففى فترة من الفترات تصدر وجدى غنيم المشهد وكان من شروط نجاح الداعية الذى تصدره الإخوان هو إشاعة أنه مضطهدا أو يتعرض للمنع من الخطابة، ليصبح هو الشيخ غير الرسمى صاحب العلم الشرعى الحقيقى الذى تخشاه المؤسسة الرسمية، واللافت أن وجدى غنيم لعب هذا الدور باقتدار رغم أن الأيام أثبتت ضحالة حجته وتهافتها، وكان يعتمد فى هذا الوقت على حس الدعابة الذى يغلف به الاف من الأفكار السامة، وكان أول من تناول الظواهر الاجتماعية من المنظور الإخوانى ثم أعاد تصديرها للمجتمع، فتحدث عن سلوك المسلم كمدرس، محامى، حتى العامل المهنى.
الآلية التى استخدمها الإخوان لترويج وجدى غنيم ونشر أفكاره كانت شريط الكاسيت والمحصلة أنهم حصدوا كثيرا من الأتباع والأنصار، وأصبحت تجارة الكاسيت للخطب الدينية أكثر رواجا من أغانى المطربين فى ذلك الوقت.
عمرو خالد.. استقطاب عبر الإنترنت
فى مطلع الألفية استقرت الجماعة على أحد أبنائها ليكون هو نجم الدعوة الدينية دون أن يعلن ذلك صراحة، فأصبح عمرو خالد على جميع الفضائيات بخطاب رقيق وملابس كاجوال، ثم استخدمت الجماعة نفس تكتيكاتها فأصبح هو الداعية الممنوع الذى تحاربه الدولة، ووصل الأمر إلى أن الكتلة البرلمانية لنواب الإخوان صعدت أمر منعه من الخطابة فى مجلس الشعب، رغم أنه من الأساس لم يكن فى هذا التوقيت يحمل مؤهلا دينيا يمكنه من ارتقاء المنبر .
مع تطور الزمان أصبح الإنترنت هو وسيلة الرواج، لكن زاحمهم فى هذا التوقيت الكثير من التيارات الدينية فحشد السلفيون لأبى إسحق الحوينى ووصفوه بـ"أعلم" أهل الأرض، وظهرت على شاشات الفضائيات فتاوى تتحدث بكل جراءة عن تحريم تعليم الفتيات، وأن الفتاة حتى لو كانت منقبة فهى السبب فى التحرش بسبب لون حقيبتها، كل ذلك كان يجرى على مرأى ومسمع من الجميع دون أن تتدخل الأجهزة الرسمية فيما كانت التيارات الدينية تكتسب أرضا جديدة كل يوم وتشحذ بطارية ماكينة الحشد.
حين سقط نظام مبارك ووثب الإخوان وحلفائهم من التيارات الدينية بدت الحقيقة مختلفة تماما عما كان يعلب فى الكاسيت والإنترنت وكان طبيعيا أن يثور الشعب ضدهم لإسقاطهم، وأن تبدأ الدولة مرحلة المواجهة مع أفكارهم وتعريتها بالكامل فتنخفض شعبيتهم إلى ما دون الطبيعى كما هو حادث اليوم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة