خفيف على القلب، لطيف على الروح، نور سطع على وجه الشاشة الفضية فجلسنا وضحكنا وبكينا وتعلمنا، أحببناه ولدا شقيا، ورجلا رشيدا، وأبا حنونا، وصحفيا مشاغبا، ومفكرا مضطربا، وشابا متسائلا، أحببناه حتى وهو تاجر مخدرات، وأحببنا حبيبته "روقة" وكرهنا "الملاحة" التي أكلت شقا عمره.
حياته درس عملي لكل من أراد أن يكون فنانا كبيرا، ومسيرته تقول لك بحكمة وبلاغة كيف يكون التنوع في الأداء، وكيف تلعب الخبرة دورا كبيرا في حياة الفنان، وكيف يكون الإصرار على النجاح عقيدة لا تتزعزع، فلم يكن نور الشريف الذي تذكره اليوم في ذكرى وفاته الخامسة ممثلا عاديا، لكنه كان ممثلا عصاميا، بنى نفسه بنفسه، وبنى فنه بعرقه، وبنى مجده بمجهوده وإصراره.
كان يملك كل مقومات الفتى الأول، لكنه لم يكن ليستسلم لاحتلاب وسامته فحسب، فتمرد على جماله الرجولي اللافت، وتمرد على رغبة المخرجين والمنتجين في تعليبه في أدوار العشق والغرام فحسب، وأطل برأسه إلى عالم يراه هو فحسب، عالم واسع من الأدوار المتنوعة والشخصيات المختلفة والنفسيات المضطربة، عالم من النضال الوطني، والهزائم الشخصية، والكفاح من أجل لقمة العيش، عالم من التصالح مع التاريخ والصراع مع القدر.
ربما يكون السر في هذه الروح الجسورة هو احترافه للعب الكرة في مقتبل عمره، حيث كان "اللاعب محمد جابر" قبل أن يصبح "الفنان نور الشريف" مغرما بالـ"ساحرة المستديرة" على لفظ المعلق الرياضي الأخصب "ميمي الشربيني" والكرة تعلم النفس الطويل وتعلم المحاورة والتغزيل، وتعلم الاشتباك المسموح والإفلات المشروع، وتعلم العيش وسط الخصوم، وتعلم الحفاظ على المرمى، وتعلم الإنسان أن يسعى وراء الهدف، وتعلم الإنسان أساسيات الصراع وأصول الاستمتاع، وقد احترف نور الشريف في شابه كرة القدم ولعب في فريق نادي الزمالك، فتعلم أن يكون كبيرا، وأن يصارع "الكبير" كما تعلم "الوفاء" للحلم حتى وإن كان بعيدا، وظل نور الشريف يحاور ويغازل ويجري ويلهث ويتعلم ويصارع ويناور حتى وصل إلى هدفه كممثل شهير وصاحب بصمة غير قابلة للتكرار، وهو أمر لم يكن ليحققه إذا ما استمر في لعب الكرة بنادي الزمالك.
علمته الكرة أيضا التحدي، فقد قال النقاد حينما صعد نجمه في بداية حياته أن هناك الكثيرين من جيله أكثر منه موهبه، لكنه برغم هذا استطاع أن يحفر لنفسه موقعا بين صفوة الكبار، مستعينا على هذا بالعمل الجاد والثقافة المتطورة، وحبه الجم للفن، ولهذا ضم أرشيف "نور الشريف" أعمالا لا تنسى، ومشاهد لا تغيب عن العين، تكفي نظرة الإصرار في "دائرة الانتقام" تكفي نظرة الحسرة في "ضربة شمس" تكفي لوعة الخسران في سواق الأوتوبيس، تكفي ابتسامة الرضا لوجه "فاطمة" في "لن أعيش في جلباب أبي، تكفي روح الخشوع في "عمر بن عبد العزيز".
خمس سنوات مرة مرت؟ نعم.. لكن نور الشريف استطاع أن يكسب في يوم من هذه السنوات الخمس محبة واحتراما في قلوب مفتقديه، إن لم يكن لفنه الراسخ ولا ثقافته الرفيعة ولا لأعماله التي لا تنسى ولا لاكتشافه الكثير من الفنانين، فعلى الأقل لما نراه اليوم من انحدار عقلي وفني وثقافي يمارسه من يظنون أنهم "نجوم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة