يلعب ميراث الماضى من المصالح الاستراتيجية بين أمريكا وروسيا فى أفغانستان وأوكرانيا، ملمحاً واضحا فى رسم آفاق المستقبل من التعاون أو الصراع الاستراتيجي، تكشفها تحركات كل طرف تجاه مصالحه العليا فى الآونة الحالية.
ولذا جاء قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مؤخراً بتزويد الجيش الأوكرانى بأسلحة قوية من الترسانة الأمريكية، تمثلت فى صواريخ مضادة للدبابات من طراز "جافلين"، فى صورة مساعدات عسكرية موجهة مباشرة لحكومة كييف، فى معرض صراعها القائم ضد الانفصاليين المدعومين من جانب الكرملين.
ووفقاً لتقارير الاستخبارات المركزية الأمريكية، فقد ساعدت تراكمات الماضى المرير التى خلفتها الصراعات العنيفة السابقة والراهنة بين أمريكا وروسيا فى أفغانستان وأوكرانيا ثم أخيراً فى سوريا، فى تفسير العلاقة التى جمعت بين الاستخبارات الروسية وحركة "طالبان" الأفغانية، وذلك على خلفية تقارير عن تمويل روسيا لمساعى قتل جنود أمريكيين فى أفغانستان.
وبالتالى يعكس القرار الأمريكى الأخير بتسليح الحكومة الأوكرانية، سخونة العلاقات بين واشنطن وموسكو والنار تحت الرماد التى يمكن أن تنفجر وتشوه العلاقات الأمريكية الروسية فى أى لحظة تاريخية، وخاصة بعد صراعهما على المصالح فى سوريا والانفراد الروسى بإدارة الملف.
ميراث العداء
كشف الرد الروسى العنيف على القرار الأمريكى عن تصاعد وتيرة الخلاف فى العلاقات بين البلدين، وعن تاريخ عريق وميراث راسخ من العداء بين البلدين خلال فترة الحرب الباردة ومن مؤشرات ذلك:
أولاً: جاء تصريح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على الخطوة الأمريكية فى صورة تحذير رسمى ينذر بتصعيد فى أفق الأحداث، إذ صرح بأن الأسلحة المرسلة إلى المنطقة الانفصالية الأوكرانية يمكن بكل سهولة إعادة توجيهها إلى مناطق أخرى من الصراع المشتعل – الأمر الذى فسره كثير من المحللين بإشارة واضحة إلى أفغانستان.
ثانياً: جاءت ردود فعل المسؤولين الروس مفعمة بغضب واضح على تقرير إخبارى نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية الأسبوع الماضي، يفيد بخلوص مسؤولى الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى أن جهاز الاستخبارات العسكرية الروسى قد بلغ به حد التصعيد إلى تقديم المكافآت المالية إلى حركة "طالبان"، وبعض العناصر الإجرامية الأخرى وثيقة الصلة بها، بُغية استهداف وقتل الجنود الأمريكيين الموجودين فى أفغانستان.
ثالثاً: وصف زامير كابولوف، المبعوث الخاص للرئيس فلاديمير بوتين إلى أفغانستان، والسفير الروسى السابق فى كابل، تقرير التحويلات المالية الروسية المزعوم إلى "طالبان" بأنه "محض افتراء وكذب صريح" تمخض عن قوى داخل الولايات المتحدة، تتفق مصالحها مع عدم انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
رابعاً: فى إشارة إلى عملية "سايكلون – الإعصار"، وهو البرنامج السرى الذى أشرفت عليه الاستخبارات المركزية الأمريكية لتسليح أعداء روسيا فى أفغانستان إبان حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، قال عضو البرلمان الروسى أليكسى زورافليوف، "إن الولايات المتحدة أنفقت مليارات الدولارات على شحنات الأسلحة التى استخدمت فى قتل آلاف ثم آلاف من الجنود الروس فى تلك الحرب، وهذه من الحقائق الراسخة التى لا تقبل الجدال".
الجدير بالذكر أن هذه العملية هى الاسم الرمزى لبرنامج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لتسليح المجاهدين فى أفغانستان من عام 1979 إلى عام 1989، بعد واثناء وبعد التدخل العسكرى من قبل الاتحاد السوفيتى لدعمهم من خلال تحويل أفغانستان إلى فيتنام أخرى للاتحاد السوفييتي، واقتصر البرنامج على دعم الجماعات الإسلامية المسلحة التى كان يفضلها نظام محمد ضياء الحق فى باكستان البلد المجاور، بدلاً من جماعات المقاومة الأفغانية الأقل أيديولوجية التى كانت تقاتل أيضا نظام جمهورية أفغانستان الديمقراطية الماركسى منذ قبل التدخل السوفيتي.
ووفقاً لتقارير فإن صواريخ "ستينجر" المضادة للطائرات كانت قد وصلت إلى أيدى المجاهدين الأفغان من قبل الولايات المتحدة، باعتبارها جزء من البرنامج السرى الذى كانت تشرف عليه وكالة الاستخبارات المركزية، إذ تمكن المجاهدون الأفغان – بمعاونة الولايات المتحدة – من إسقاط مئات الطائرات المقاتلة والمروحيات الحربية السوفيتية، الأمر الذى أسفر عن تغيير التوازنات فى تلك الحرب الضروس التى امتدت قرابة عشر سنوات.
وفى المقابل ظلت الحكومة الروسية على تواصل مستمر مع "طالبان" منذ سنوات، بدءاً من عام 1995 عندما زار زامير كابولوف مدينة قندهار، وهى معقل "طالبان" فى الجنوب، من أجل التفاوض بشأن إطلاق طيارين روس كانوا محتجزين رهائن لدى الحركة. وفى خاتمة المطاف، تمكن الطيارون الروس من الفرار بطائراتهم عائدين إلى بلادهم، فيما وصفت وقتها بأنها عملية هروب جريئة وناجحة.
ولدى روسيا قناعة بأنه إذا نجحت فى خلق كثير من المشكلات للولايات المتحدة داخل أفغانستان، فإن الأمريكيين سيخلقون القليل من المشكلات بالنسبة لروسيا فى أوكرانيا وسوريا فى المقابل.
واشنطن ترد
تواجه إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترمب، سيلاً من الضغوط من الديمقراطيين والجمهوريين على حدٍّ سواء، على خلفية التقارير عن تقديم روسيا مكافآت لعناصر من حركة طالبان لقتل جنود أمريكيين فى أفغانستان.
وأثارت هذه التقارير امتعاض المشرعين من الحزبين الكبيرين فى أمريكا، وسلطت هذه الأزمة الضوء على الانقسام ما بين البيت الأبيض والجمهوريين فى الملف الروسي، فركّز الجمهوريون على ضرورة الرد بحزم على روسيا، ودعا بعضهم إلى إدراجها على لائحة الدول الراعية للإرهاب.
فى حين أكدت رئيسة مجلس النواب الأمريكى نانسى بيلوسي، أنه ينبغى تعزيز العقوبات الأمريكية على روسيا، لتشمل قطاعى المخابرات والدفاع اللذين قالت إن إدارة الرئيس دونالد ترمب طلبت رفعهما من تشريع العقوبات السابق.
كما ردت واشنطن على التصريحات الروسية بطريقة أخرى وفى ملفات غاية فى الأهمية من أبرزها، اتهام واشنطن لروسيا بانتهاك اتفاقية الأسلحة البيولوجية، الأمر الذى نفته الخارجية الروسية، وقالت إن "أنشطة روسيا فى المجال الطبى الحيوى ذات طبيعة سلمية بحتة وتتوافق تماماً مع التزامات اتفاقية الأسلحة البيولوجية".
يبقى القول أن الفترة المقبلة سوف تشهد مزيداً من السجالات السياسية العميقة بين أمريكا وروسيا على خلفية هذه الملفات المفتوحة والتى باتت تنذر بخلق حالة من الشكوك والاتهامات المتبادلة التى صبغها الميراث التاريخى من العداء خلال فترة الحرب الباردة، وستبقى النار تحت الرماد هى السمة البارزة لعلاقات واشنطن وموسكو.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة