توافد الوزراء إلى المنزل الذى استأجره جمال عبد الناصر فى «الرمل» بالإسكندرية، قبل أن يلقى خطابه من شرفة مبنى البورصة بميدان المنشية، يوم 26 يوليو «مثل هذا اليوم 1956».. كان فتحى رضوان وزيرًا للإرشاد القومى، ويذكر شهادته عن هذا الحدث فى كتابه «عبد الناصر»، قائلا: «تجمع الوزراء وكل منهم فى حالة عادية، وجاء عبد الناصر ليأخذ مكانا فى البهو الطويل الضيق، وبدأ يتكلم، وما كاد يكمل جملتين من حديثه إلا وأدرك الوزراء أن الاجتماع الذى بدا عاديا وبريئا، إنما هو اجتماع له ما بعده».. ويضيف رضوان: «أعلن عبد الناصر أنه أعد وثائق تأميم قناة السويس، وسيعلنها فى خطبته.. شملت السعادة الذين كانوا فى البهو، فالقناة بماضيها كانت قرحة ملتهبة فى جسم مصر».
سأل عبد الناصر: «هل شعر أحدكم بالذعر؟»، وخص رضوان: «هل شعرت يا فتحى بالذعر؟».. يعترف رضوان: «صعد الدم إلى رأسى، شعرت بإهانة بالغة ولا مبرر لها من السؤال، فقلت: «ولماذا أنا الذى أشعر بالذعر، أذعنا طوال الشهر الحالى مسلسلا إذاعيا بعنوان «إسماعيل المفتش» ذكرنا فيه المصريين بمأساة بيع 176 ألف سهم من القناة تملكها مصر، وباعها الخديو إسماعيل بأربعة ملايين جنيه لبريطانيا، استدانها اللورد «درزائيلى» من يهودى مثله هو اللورد «روتشيلد».
رد عبد الناصر: «سيقولون فيما بعد، إنك كنت تمهد لقرار التأميم»، فواصل رضوان وهو على غضبه: «أصدرنا كتيبا بعنوان «أضواء على قناة السويس»، نقدنا فيه ما يروجه الغرب من أن مساهمة مصر فى مشروع القناة كان بالأيدى العاملة الرخيصة فقط، وأثبتنا أن لدينا دراسة هندسية وطبوغرافية للمشروع تمت فى عهد محمد على، وساهم فيها مهندسون ومساحون مصريون»، سرح عبد الناصر بخاطره وسأل: «أين هذه الدراسة؟ فأجبته:«عندنا وعرضناها للبيع، وراجت كثيرا»، فقال: «حسنا أرسل لى واحدة منها فقد نحتاج إليها فى المستقبل».
سأل عبد الناصر الآخرين: «هل لدى أحدكم تعليق أوسؤال؟ رد رضوان: «عندى أنا، أنا فاهم من كلام سيادتك، إنك ستقول، أممت القناة ردًا على كلام دالاس وإهانته لنا».. تجهم عبد الناصر، وقال مندهشًا: «ماذا تريدنى أن أقول؟». اندفع رضوان: «قل كل شىء دون أن تربط تأميم القناة بسحب الغرب تمويله لمشروع السد»، ضاق عبد الناصر بهذا الكلام، وقال: «غريبة، وماذا فى هذا؟». رد رضوان: «فيه إضعاف لحقنا فى التأميم، القناة مرفق مصرى والتأميم من حقوقنا المطلقة»، يضيف رضوان: «نفذ صبر عبد الناصر، وخيل إليه أننى أريد أن أملى عليه اتجاها معينا، فقام وهو يلوح بذراعيه مسرعا تجاه دورة المياه وهو يقول: «أنا عارف ماذا سأقول.. سأغسل وجهى أولا». ثم خرج مبتهجا واثقا من نفسه».
فى حضور عشرات الآلاف بدأ عبد الناصر خطبته، ويصفها أحمد حمروش فى كتاب «ثورة 23 يوليو»: «كانت قمة خطبه وأعظمها تأثيرا فى الجماهير وأشدها إثارة»، ويتذكرها رضوان: «تكلم عبدالناصر بأسلوبه الذى تميز به، وكان مزيجا من «العربية الفصحى» فى مطلع الخطبة، وفى الفقرات الافتتاحية لأجزاء الخطاب وفصوله الرئيسية، ثم «العامية المطلقة» مع ميل إلى التكرار والإطالة، ولكن الجماهير لا فى مصر وحدها بل فى بلاد العرب كلها شرقا وغربا أحبت هذا الأسلوب، لم يكن فى وسع أى عربى حتى رعاة الإبل فى قلب الصحراء أن يمنع نفسه من أن يدير الترانزستور إلى إذاعة مصر ليسمع وينتشى».
جلس «رضوان» فى الصف التالى لعبد الناصر، ويتذكر: «تأملت هذه الجموع الحاشدة، التى لا تدرى شيئا عن المفاجأة المذهلة التى يخبئها عبد الناصر، وما كاد يقرأ اللفظ الأول من عنوان قرار التأميم حتى أصابت الناس هزة عنيفة، لا فى الميدان وحده بل فى كل بيت من بيوت مصر، وفى كل بيت من بيوت العالم العربى، وفى الشوارع والأزقة، وفى السيارات المنطلقة بأقصى سرعة، فى كل حدب وصوب وطريق ودرب، ومعهم أجهزة الاستماع، رأيت الناس دفعة واحدة، وبلا سابق اتفاق يقفزون فى الهواء، ويرتفعون عن الأرض صدقا».
قبل الخطاب وفى السادسة مساء، اجتمع «فريق التأميم» فى حجرة بمعسكر الجلاء بالإسماعيلية، كانوا لا يعرفون شيئا، ووقف المهندس محمود يونس أمامهم، يتوسط عبد الحميد أبوبكر، وعزت عادل، وبعد مقدمة قصيرة قال: «الرئيس جمال عبد الناصر قرر تأميم القناة، والمجموعة الموجودة فى الحجرة ستتولى التنفيذ».. ويؤكد «أبوبكر»: «ساد صمت، تصبب العرق من مدنيين حضروا ببدلهم كاملة فى هذا الجو الحار، كان منظرنا محمود يونس وعزت عادل وأنا، لا يدعو للثقة التامة، كان يونس يرتدى بنطلونا رمادى اللون، وقميصا أبيض مفتوح الأزرار، ويشمر عن ساعديه، وشعر صدره بارز من القميص، وكنت أنا وعزت عادل نرتدى مثله».
شدد يونس: «عندما يبدأ الرئيس فى خطابه الساعة السابعة، سيتابعه الجميع كلمة كلمة، وعندما يصل إلى كلمة «ديلسيبس» سنتحرك، ودخول مراكز الشركة سيكون عندما ينطق عبارة: «هناك إخوان لكم يقومون الآن بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس».. تأخر الخطاب ساعة ونصف، ويؤكد أبوبكر: «لم نتأثر، وخشى عبد الناصر من أن تفلت كلمة السر من أسماعنا، فكرر اسم «ديلسيبس» 17 مرة، غير أننا من أول مرة سمعنا فيها الاسم فى الساعة العاشرة مساء، بدأنا عملية التأميم واهتزت الدنيا».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة