- طبيب الأسرة المالكة يستدعى رجاء ويقرر تخفيض قيمة الإيجار
- إصرار كاريوكا على أن تورث العلم لرجاء الجداوى
لم أعِ جيدا وبهذا القدر من الفهم ما قصده رسولنا الكريم بحديثه الشريف: «ومازال جِبْرِيل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه».. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نعم تعلمت من عشرتها الجميلة كيف يكون جارك أهلا لك، و«ونس حقيقى»، بل وبيتا وأمانا.
قبل أن تذهب إلى المستشفى بيوم واحد، أتانى اتصالها بعد صلاة العشاء فى أيام رمضان.. سألتنى إن كنت بشقتى الكائنة فوق شقتها مباشرة، قائلة لى: «عمر انزلى.. أنا مستنياك فى العربية عايزة أشوفك أنت واحشتنى»، وكان بجوارها أميرة ابنتها.
ولسوء حظى أننى كنت وقتها فى طريق عودتى من مدينة 6 أكتوبر، وألححت عليها أن تنتظرنى لحين عودتى لأراها، لكنها وللعجب الشديد كانت قد قررت أن تمر على صديقتيها دلال وميرفت.
وبنفس الكلمات، دعت دلال عبدالعزيز للنزول لها لتراها وهى فى سيارتها، فى مشهد إنسانى رائع قد لا تراه على الشاشات.. نعم أرادت أن تودعنا فى لحظاتها الأخيرة فى الحياة.
ثم رحلت إلى العزل، لا لتنعزل وإنما لتختلى لحظات فى خلوة عظيمة أرادها لها المولى سبحانه، فهكذا صرحت لى فى آخر مكالمة لها معى من مستشفى العزل بالإسماعيلية مسقط رأسها والتى عشقتها بجنون، حين قالت لى: «أنا هنا أقضى معظم وقتى فى القراءة والاستماع إلى القرآن، وأهى فرصة يا عمر أدعو وأبتهل وأناجى ربنا وأستغفره».. وشعرت وقتها بأن الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدرته وعظمته حقا، أراد أن يخفف عنا ويؤهلنا جميعا لصدمة فراقها، وأن تكون حقا فرصة عظيمة لها للتطهر من آثام الحياة وزيفها، فظلت تقرأ القرآن وتناجيه وتدعوه ليلا ونهارا إلى أن أتى أجلها، رحمها الله.
ولا أعتقد أنه كان من قبيل الصدفة أن تختار بنفسها أن تذهب إلى الإسماعيلية الأرض التى ولدت عليها لتنهى أيامها الأخيرة.
نعم، اختلت وحدها تاركة وراءها دنيانا بكل ما فيها، لتنهل من عشق آخر وتتأهب لملاقاة الكريم الذى أكرمها عمرا بل أعمارا فوق عمرها.
قد يبدو لنا أنها قد رحلت وحدها، لا والذى خلقها ومنحها كل هذا الجمال والكمال، لم ترحل رجاء وحدها بل صحبها عملها وإيمانها وطاقة الحب النادرة التى حباها الله إياها، وأشواق لنفوس وبشر علمتهم حب السماء وإعمار الأرض بالخير والسلام والأمان النفسى.
كل هذا العشق لرجاء كان قرارها، نعم هى من قررت، تزرع فى صحراء قلوب كل من قابلتهم واحة من الحب والتسامح، وأن تنشر بين كل من يعملون معها كل معانى العفو والصفح، والسمو بأخلاقهم فوق كل مهاترات الحياة.
رجاء لم تعرف فى مفردات حياتها حروف الصراع والتآمر واقتناص الفرص والقفز على أقدار الآخرين وأرزاقهم.
مرات عديدة، تشاجرت معى والسبب نسيانى مفتاح باب شقتى فى الباب وحين انتبه الأمن اتجهوا إليها، فهى كبيرتنا، ولا أستطيع نسيان غضبها الشديد منى خوفا علىّ.
بل إنها أتت لى بسلسلة مفتاح يتم تثبيتها فى البنطلون حتى لا أنساه، إلى هذا الحد كانت حريصة على الآخرين فى دوامة انشغالها.
أذكر أنه أيام أحداث يناير وقتها كان هناك حظر فى شوارع المحروسة، أقامت فى بيتها ما يشبه الصالون الثقافى لكنه كان صالونا سياسيا ووطنيا، إن جاز لنا التعبير.
نتابع جميعا ومعظم القريبين منها من سكان العمارة كل الأحداث، وكان واضحا عليها كم الهلع والخوف والترقب من خلال لهثها وراء القنوات وساعدها إتقانها للغات أن تحرص على متابعة القنوات الأجنبية، ورغم بقائى معها لساعات طويلة، فما أن يطل ضوء النهار إلا وأستقبل منها اتصالا تليفونيا لتسأل عن أى جديد، فخوفها على مصر كان بلا حدود.
كان يشغلها كثيرا كثيرا، سلوكيات الناس طوال الوقت وكانت شخصيتها تتسم بالإيجابية الشديدة، فكان حرصها على خلق حالة وعى عند الناس أكبر من أن يتخيلها أحد، فكثيرا ما كانت تروى لى الحكايات والمواقف عن تدخلها وحرصها على أن توقف شخصا ما تصرف أمامها تصرفا سيئا، لتنصحه وتناقشه، وتوجهه مهما كان سنه وكأنها مصلحة اجتماعية شغلها انهيار الأخلاقيات، حتى لو استدعى الأمر أن توقف سيارتها فى الشارع لتنهر شخصا سلك سلوكا معيبا أمامها.
ومن الحكايات التى روتها لى، موقف أزعجها إزعاجا شديدا، حدث معها أثناء إحدى رحلاتها فى مطار القاهرة، وكانت غاضبة بصورة لم أعتدها منها على الإطلاق.
حين مرت أمام جمع من بعض العمال الذين يعملون بالمطار وكانوا جالسين على ما يبدو فى فترة راحتهم، وكانت هى فى طريقها للاستراحة التى ستستقل منها طائرتها متجهة إلى إحدى الدول.
فما كان من أحد العاملين وبمجرد رؤيتها إلا أنه قال لها بصوت عال لم يعجبها على الإطلاق، وهى الواعية للذوقيات والخبيرة فى قواعد الإتيكيت.
قال لها «على فين يا نجمة» استدارت رجاء الجداوى لتتبين مصدر الصوت، ثم عادت خطوات للخلف، واقتربت منه، وبحسم شديد ممزوج بالغضب، قالت له: «قوم اقف وأنا بتكلم معاك»، ووجهت حديثها له قائلة: «أنا مدام رجاء، ولا يصح أن تحدثنى وأنت جالس بهذه الصورة شبه الساخرة، ومش شغلك ولا يصح أن تقول لى أنتى رايحة فين، وإذا أردت أن تحيى فنانا فيجب أن تتأدب جيدا وأنت تحييه وتوجه إليه حديثك».
وهددته بأنها ستقدم شكوى إلى رؤسائه بخصوص تصرفه، وأصرت على أن يعتذر لها.
رجاء الجداوى لم تكن مجرد فنانة عادية، لكنها كانت صاحبة قرار، دوما كانت حياتها عبارة عن قرارات، حتى عندما أرادت أن تستقل بحياتها يوما ما، بعيدا عن رعاية خالتها الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا، كانت تدرك أن القرار سيكون صعبا للغاية، وله تبعاته وثمنه، وعاشت أياما مرة وسنين كلها عذاب، لكنها كانت أقوى من الأيام والسنين، وعاشت على الكفاف، لدرجة أن صاحب العمارة التى نقطن بها سويا، وكان طبيب الأسرة المالكة بمصر وتعد هذه العمارة من أعرق وأعظم البنايات فى شارع الدقى، اسمه دكتور مجدى باشا إبراهيم، حكت لى رجاء الجداوى أنه قابلها بعد وفاة والدتها وسألها عن عملها وعن مصدر رزقها، وألح فى معرفة دخلها ليفاجئها برغبته أن يخفض من قيمة الإيجار لها رغبة فى مساعدتها.
نعم، حكت عن أيامها الصعبة وعن قصة كفاحها، بمنتهى الشجاعة والفخر، والاعتزاز، وكانت ترى أن ثروتها الحقيقية، ورأس مالها هو العلم الذى كانت محظوظة بتحصيله على أعظم وجه بفضل سيدة عظيمة أدركت أن أعظم ما يمكن أن تورثها إياه ليس المجوهرات ولا العقارات ولا أيا من هذه الأشياء الزائلة، وإنما ثروتها الحقيقية يجب أن تكون العلم ثم العلم ثم العلم، فأدخلتها أعظم المدارس وأرقاها، وحرصت على أن تجعلها تتقن اللغات، وكل قواعد الذوق.
وكانت تحية كاريوكا صاحبة شخصية قوية بصورة مخيفة، وملتزمة بتربية رجاء على أعظم ما يكون إلى حد القسوة الشديدة، فمن المواقف التى حكتها لى السيدة سهير البابلى، والتى كانت تربطها برجاء صداقة شديدة، ووقتها كانت سهير متزوجة من منير مراد، وكان منير مراد فى إحدى سفرياته خارج مصر وقتها، وألحت سهير على أن تسمح تحية كاريوكا لرجاء أن تقيم معها لمدة ليلتين فقط أثناء غياب منير مراد، حيث كانت سهير بمفردها، وبعد إلحاح شديد من سهير ورجاء، وافقت تحية بشروط قاسية.
كان أهمها عدم الخروج إطلاقا من البيت ووافقتا على هذا الشرط..
لكن الشباب بحماسه.. أقنعت سهير رجاء بأن تذهبا إلى أحد المحال الشهيرة وقتها لتناول آيس كريم خاصة أن المحل بجوار بيت سهير، ووافقت رجاء وهى فى منتهى الرعب خوفا من اتصال تحية بهما على تليفون المنزل، ولكن ولسوء حظهما، فقدت سهير مفتاح الشقة، شقة سهير، كانت رجاء ترجف من الخوف، وهما فى طريقهما لتحية لإبلاغها بالكارثة، ولم تكن تتصور سهير ما سيحدث اعتقادا منها أن الأمر سيمر، وأقسمت لى سهير البابلى أنها تلقت صفعة على وجهها، لم تتلقها طوال عمرها.. أما ما حدث مع رجاء من تحية كاريوكا، فحدث ولا حرج.
كثيرون كانوا لا يفهمون كثيرا حديث رجاء عن تحية كاريوكا بهذا القدر من الحب والاحترام والتقدير لشخصها.
فتحية كانت تبرر قسوتها على رجاء لأنها أمانة لديها، وأنه لا بد وأن تكون جديرة بثقة أم رجاء فيها.
بل إنها عارضت بشدة عملها بالفن، وظلت لسنوات مقاطعة رجاء بسبب إصرارها على أن تخوض التجربة.
وكانت تحاول دوما أن تهز ثقتها بنفسها كممثلة، خوفا عليها ومحاولة إبعادها عن هذه الحياة القاسية، لكنها ومع الأيام وحينما أكدت رجاء موهبتها، وقدرتها على أن تكون نموذجا مشرفا وواعيا، ومثقفا، وقدمت أعمالا رائعة، أدركت تحية وقتها أنه قد آن الأوان لتعترف بموهبتها، بل إنها أصبحت أخلص مستشارة لها، وماتت رحمها الله فى أحضان رجاء.
القرار فى حياة رجاء هو ما جعلها حريصة على أن تجعل من شخصها رمزا للاحترام من الآخرين، وأن تقدم فى سلوكياتها ما يجعلها جديرة بهذه المكانة التى حصلت عليها.
ولا أنسى يوم أن قابلتها على سلم العمارة فى ثانى يوم حصلت فيه على وسام اعتبرته أعظم وسام حصلت عليه فى حياتها، حين أشاد السيد رئيس الجمهورية بها وعلى الهواء مباشرة وأمام الملايين ممن يتابعون، هذه الواقعة.
والله إننى لم أر فى حياتى دموع رجاء الجداوى مثلما رأيتها فى هذا اليوم.
نعم بكت أمامى دموعا شعرت أنها دموع الامتنان لجائزة المشوار الطويل.. جائزة احترام النفس واحترام الجمهور واحترام مهنتها، مهما كلفها هذا الاحترام.
لقد كانت ترفض رجاء أعمالا كثيرة جدا، خاصة فى بعض الأفلام الكوميدية، وكانت تبرر بكلمة واحدة فقط.. «ما يصحش يا عمر».
نعم كانت تدرك جيدا ما يجب عليها عمله وما لا يجب إطلاقا مهما كانت احتياجاتها.
من المرات التى دار بيننا فيها حوار خاص للغاية، وكانت إلى حد ما يساورها القلق على الشغل والفلوس، فقلت لها مازحا: «ألم تكتف بعد يا رجاء أنتِ الحمد لله بخير، ولديك الكثير»، وكنت أمزح لأننى أعلم جيدا أن رجاء كان سعيها لغيرها، فابتسمت لى قائلة: «يا عمر فى ورايا ناس غلابة كتير ما حدش يعرف ما بينى وبينهم سوى الله سبحانه وتعالى، ولادهم بيدرسوا، وأنا أتكفل بهم جميعا، هما دول اللى بخاف عليهم وبخاف من التزامى تجاههم».
بجعبتى الكثير والكثير عن رجاء التى لا يعرفها أحد.. عن رجاء الإنسانة.. عن رجاء الجارة الحنينة الجميلة.. عن رجاء الأم التى تركت لنا أيقونة حب، وأخلاق، وتقوى حقيقية، وشخصية بها من طعم ورائحة ورقى وجدعنة وكرم رجاء الكثير والكثير، والتى كانت خير خلف لخير سلف، يوم أن أقدمت بشجاعة وحدها لتودع أمها وتدعو لها وتطلب من الجميع الدعاء لا البكاء، راضية بقضاء الله.. بداخلها زهو شديد وفخر واعتزاز بأنها ابنة هذه السيدة التى نعتها الملايين من جماهيرها فى العالم العربى كله، والتى بكت كل القلوب، محتسبين عند الله سيدة عاشت للخير ورحلت بهدوء، لتترك لنا أنشودة خير اسمها «رجاء الجداوى».. رحمها الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة