يأتي قرار الولايات المتحدة الأمريكية في 29 مايو 2020، والقاضي بإنهاء العمل بثلاثة استثناءات أساسية لمشاريع في القطاع النووي المدني الإيراني، بما فيها مشروع تحديث وتعديل مفاعل آراك، ليثير مخاوف الدول الأوروبية وبعض القوى العالمية مثل روسيا والصين وبريطانيا، ويبرهن على رغبة واشنطن في أنها لن تسمح للنظام الإيراني بالعودة إلى استيراد الأسلحة الفتاكة والمختلفة.
يكتسب هذا القرار أهمية خاصة في ظل تجاذبات الداخل الأمريكي على خلفية السجالات الدائرة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتحديدا بين ترامب وبايدن بسبب كورونا والأوضاع الداخلية.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد استبقت قرار الإعفاءات بقرارات أخرى، وبالتزامن مع الذكرى السنوية الثانية لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي) مع إيران، كثفت واشنطن تحركاتها الدبلوماسية من أجل منع طهران من الإفادة من واحد من أبرز بنود هذا الاتفاق.
فلم تترك الإدارة الأمريكية أي مجال للشك في أنها لن تسمح للنظام الإيراني بالعودة إلى استيراد الأسلحة المختلفة، التي تستخدم من أجل زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وأنها ستعمل على صوغ قرار جديد للتصويت عليه في مجلس الأمن قبل انتهاء الموعد في أكتوبر 2020.
وفي ظل المخاوف من قيام الصين أو روسيا، أو كلتيهما معا بتعطيل هذا المسعى عبر استخدام حق النقض، الفيتو، لم تستبعد الولايات المتحدة أن تلجأ إلى تقديم شكوى، في سياق الاتفاق النووي الذي انسحبت منه، بشأن الانتهاكات الإيرانية المتواصلة، بغية تحريك آلية إعادة فرض العقوبات تلقائيا، المسماة (سناب باك)، في الاتفاق الذي وقعته إيران عام 2015 مع مجموعة 5 + 1 للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، بالإضافة إلى ألمانيا.
ورغم موافقة الأوروبيين على خطورة ملفي الصواريخ الباليستية ودور إيران التخريبي في الشرق الأوسط، إلا أنهم يعتبرون أنه ينبغي الحفاظ على الاتفاق النووي، بموازاة الضغط على النظام الإيراني لتغيير سلوكه فيما يتعلق بهاتين المسألتين، أما الأمريكيون فيعتبرون ذلك محالا.
وتخضع إيران لحظر الأسلحة منذ مارس 2007 بموجب القرار 1747، وجرى تجديد هذا الحظر عام 2010 بالقرار 1929. وصدر هذان القراران بالإجماع في حينه.
مخاوف وارتباك أوروبي
أثار القرار الأمريكي الكثير من المخاوف والهواجس والشكوك لدى الدول الأوربية المعنية بالملف النووي الإيراني، فقد أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، بيانا مشتركا أعربوا خلاله عن أسفهم الشديد لقرار الإدارة الأمريكية بإنهاء الإعفاءات الثلاثة للمشاريع النووية الرئيسية المنصوص عليها في الاتفاق النووي الإيراني.
وذكر البيان أن هذه المشاريع، بما فيها مشروع تحديث مفاعل "أراك" النووي، التي أيدها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، تخدم مصالح الجميع في مجال الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتمنح المجتمع الدولي ضمانات متعلقة بالطابع السلمي والآمن للأنشطة النووية الإيرانية.
وأشار البيان إلى أن الدول الموقعة عليه، تتشاور مع شركائها لتقييم تداعيات قرار الولايات المتحدة، مضيفا أن "الاتفاق النووي هو إنجاز هام لنظام منع انتشار السلاح النووي، ويبقى الطريقة الوحيدة والأفضل لضمان الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني"، مؤكدا أن الأطراف المعنية "عملت باستمرار بهدف ضمان التنفيذ الكامل والفعال للالتزامات وفقا للاتفاق النووي، بما في ذلك عودة إيران للالتزام بشكل كامل بتعهداتها دون تأخير.
والمعروف أن واشنطن غضت الطرف عن هذه الاستثناءات الواردة في الاتفاق رغم خروجها منه، وفرضها سياسة العقوبات القصوى على طهران، لكن واشنطن الآن عازمة على دفع مجلس الأمن، بشكل أو بآخر، إلى تمديد العقوبات المفروضة على إيران في موضوع السلاح التقليدي طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 2231 والذي ينتهي في أكتوبر المقبل.
وهاتان المسألتان تحرجان الأوروبيين الذين ما زالوا متمسكين بالاتفاق النووي لعدة أسباب أهمها استمرار وضع النشاطات النووية الإيرانية تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة، وللإشارة، فإن مفتشيها ما زالوا في إيران، وهم يقومون بعملهم، ويرفعون تقارير دورية إلى مقر الوكالة في فيينا.
ووفق القراءة الأوروبية، فإن قبول الإيرانيين بالتفتيش يعني أنهم لا يريدون الخروج النهائي من الاتفاق، رغم التحلل من كثير من بنوده، ومنها استخدام طاردات مركزية حديثة، وتخطي سقف اليورانيوم المشبع المتاح، والارتقاء بمستوى التخصيب المسموح.
وتبعا للرؤية الأوروبية نفسها، فإن خطوات الإدارة الأمريكية المتلاحقة هدفها دفع إيران للخروج من الاتفاق، ما سيسهل عندها إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران التي رفعت بعد التوقيع على الاتفاق في يوليو 2015.
ومع قرار الولايات المتحدة الأمريكية الجديد، فإنها بذلك تشدد الخناق والضغوط، ليس فقط على إيران، ولكن على الأطراف (دولا وشركات) التي كانت معنية بالإعفاءات الثلاثة التي تتناول بشكل أساسي تحويل موقع آراك عن غرضه العسكري ليصبح مدنيا، وتزويد مفاعل طهران الاختباري بالمادة النووية.
وبذلك، تكون واشنطن قد مدت عقوباتها العابرة للحدود على من يخالف قرارها، مع إعطائها فترة سماح من ستين يوما. وقد سعى الأوروبيون من خلال آلية "إنستكس" لمساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات الأمريكية، إلا أن العمليات التي تمت في هذا الإطار بقيت هامشية، الأمر الذي وفر لطهران حجة التنديد بالأوروبيين، لما يرونه من غياب الإرادة السياسية للوقوف بوجه واشنطن.
كما شكلت الخطوة الأوروبية لتفعيل "آلية فض النزاعات" المنصوص عليها في الاتفاق، التي يمكن أن تعيد الملف النووي بكامله أمام مجلس الأمن، سببا إضافيا للتباعد بين إيران والأوروبيين. وفي حال خرجت إيران رسميا من الاتفاق، فإن ذلك سيعني نهايته التامة، وهو ما لا يريده الأوروبيون.
قلق روسي صيني
وإذا كانت الدول الأوروبية تخشى القرارات الأمريكية المتلاحقة بشأن الاتفاق النووي الإيراني، فإن روسيا تعتبر المتضرر الأول من قرار إلغاء الإعفاءات والاستثناءات الأمريكي، باعتبار أن شركاتها هي الأكثر ضلوعا في المشاريع الإيرانية الثلاثة، كما أن الصين وبريطانيا تعدان ضالعتان في تعديل مفاعل آراك، بحيث لن يكون قادرا على إنتاج المياه الثقيلة التي يمكن استخدامها لإنتاج البلوتونيوم للأغراض العسكرية، حيث وصل خبراء بريطانيون إلى إيران للمساهمة في تحديث آراك، خلال ديسمبر الماضي، وفق ما ينص عليه الاتفاق النووي.
وعلى خلفية ذلك، فإن موسكو ليست وحدها المعنية بتأثيرات القرار الأمريكي، لكن ما يميز سياسة موسكو أنها تنتهج أسلوب الدبلوماسية الفعالة، لذا أشار الناطق باسم منظمة الطاقة النووية الإيرانية، بهروز كمالوندي، إلى الدور الروسي، بتأكيده أن طهران قادرة على الحصول على المادة النووية من روسيا.
يبقى القول إن تطورات الأوضاع المتعلقة بكورونا والأوضاع الداخلية الأمريكية ربما تحمل الكثير من التأثيرات المتباينة على ملف إيران النووي في المستقبل القليل المنظور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة