فى عالم الجريمة كل شىء مباح، فجرائم "القتل، السرقة، والنصب"، و غيرها التى اعتدنا على سماعها بشكل دورى، يصاحبها أشياء أخرى لا يكشف عنها إلا نادراً، وهذا ما يجعل بعضها من أغرب القصص والأحاديث، التى قد لا يصدقها عقل ولا تستوعبها النفس.
"اليوم السابع" يقدم فى سلسلة " أغرب القضايا" قصص ليست دربا من الخيال ولا فكراً مجردا لمبدع، ولا صورة خيالية لفنان عن الواقع، وإنما هى قصص إنسانية صادقة وعميقة من داخل المحاكم خلال سنوات طويلة من الزمن.
"الحلقة الخامسة".. "صراع مع الوهم"
يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا"..
ويروى المستشار أبو شقة، وقعت أحداث هذه القضية وباشرت تحقيق وقائعها أثناء عملى كوكيل نيابة بالجيزة، كانت أحداثها مثيرة، أقرب من الخيال، بعيدة عن الواقع.. تجمع بين جناحيها الخير والشر والحب والكراهية..الصفاء والغدر.. الحب والانتقام..
كانت فتاة فى منهى الجمال فى العشرين من عمرها، رشيقة ممشوقة القوام.. بيضاء البشرة.. حباها الله بخضرة العينين التى كانت تشع جاذبية لا تقاوم..تقدم لخطبتها الكثير من الشباب.. معظمهم فى مراكو مرموقة رغم أنهم على أولى درجات سلم الحياة.. لكن الرفض منها كان الجواب الدائم الذى كان محل استغراب الجميع.
خاب ظن الجميع وطاشت كل خيالاتهم وتوقعاتهم، وأفاقوا من أحلامهم على وقع ذبك الخبر الذى كان مسار دهشتهم وحيرتهم.. رافضين تصديقه أو حتى تخليله أو مجرد تصوره..
أخيراً قررت أن تتزوج الفتاة لكن من كهل قارب التسعين من عمره، وأصرت على هذا الزواج رغم فارق السن الكبير الذى يقترب من الخمسين عاماً بين سن كل منهما.. وباركت أسرتها الفقيرة زواجها من الكهل الثرى الذى انتشلها بثرائه من حياة المعاناة والفقر والحرمان، إلى حياة الرفاهية والعز والأمان، نقلها لتعيش معه فى الفيلا الفاخرة التى اشتراها خصيصاً لها واشترى لها سيارة فارهة وأفخر الملابس.. وأحضر لها العديد من الخدم.. ليكونوا رهن إشارتها.
عاشت الفتاة مع زوجها الكهل الذى دبت فى جسده الهزيل كومة من الأمراض.. ممرضة قبل أن تكون زوجة.. تعطيه الدواء فى نهاره وتواصل السهر على تمريضه ليلاً، ولم تمض سوى سنة وبضعة شهور حتى زادت مشاكله المرضية واشتد عليه المرض وتدهورت صحته حتى وافاه الأجل.. وقد ترك لها ثروة كبيرة و أموالاً كثيرة فى حسابتها فى البنوك فضلاً عن امتلاك أراضٍ قام بشرائها باسمها.
أحست الفتاة أن الفقر الذى طالما عاشت معه وتربت فيه قد تحول إلى غنى وثراء وثروة فاحشة، أن عليها أن تنطلق وأن تخرج من القمقم الذى دفنت نفسها فيه قرابة العامين، والفقر المدقع الذى غاصت فيه من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. انطلقت تعوض ما فات شبابها من حرمان، وهى تبحث عن الشاب الذى ستعطيه حبها.. ليس أى شاب جدير بهذا الحب.. فقد رسمت فى مخليلتها نموذجاً لشاب وضعت بنفسها مواصفاته تتوافر فيه الوسامة والوجاهة، والرشاقة والذكاء واللباقة والطموح.. وأن يكون خفيف الظل حلو الكلمة.
لم يمر كثيراً من الوقت حتى التقت بشاب يقاربها فى العمر.. كان نموذجاً لتلك الصورة التى رسمتها فى مخيلتها.. والتى حلمت كثيراً بها فى منامها.. وفتحت عينيها فقد تحول الحلم إلى حقيقة، إنه شاب حديث التخرج من كلية الهندسة، يفصح مظهره المتواضع عن فقره، وجدت فيه منذ الوهلة الأولى صورة مماثلة لها يوم أن التقت بزوجها الأول "فتاة كتب عليها القدر الحرمان من كل شىء".
صارحته بكل كبيرة وصغيرة عن حياتها وعن أسرتها.. عرف منها أنها نشأت فى أسرة فقيرة وأنها كانت تعمل بائعة فى أحد المحلات الكبرى عندما التقى بها زوجها الأول، وصارحته بأن الشاب الذى طالما حلمت به وأعجبها طموحه وكفاحه وصموده رغم فقره، فقد حصل على بكالوريوس الهندسة ويستعد للحصول على الدكتوراه، وصارحها هو الأخر بأنه أحب فيها روح التضحية والإيثار والعقل والحكمة، كيف أنها باعت نفسها وقبلت أن تقدم نفسها قرباناً من أجل أسرتها وإسعاد إخوتها.
تزوجت الفتاة من الشاب الذى طالما رسمه فى خيالها وسبحا معاً فى بحور الحب وينابيع الهيام ترتشف كؤوس السعادة وذاقت- لأول مرة فى حياتها- طعم الحب الحقيقى، أحست أن الدنيا كلها بين يديها وأن وجه الحياة المظلم قد تبدد، وأن الشمس قد أشرقت وأطلت عليها وغمرتها بأشعتها الجميلة بالحب والدفء والسعادة.
ولكن متى دامت السعادة لإنسان؟ فليس ما يحب المرء يدركه فقد تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.
ذات صباح وقعت عيناها على مفاتيح خزينة زوجها التى يحتفظ داخلها بأوراقه الخاصة، قد نسيها – وهو فى عجلة من أمره- للحاق بعمله.. لم تكن من عادتها أن تفتش وراءه فقد كانت ثقتها به وفيه لا حدود.
ومن قبيل الرغبة المجردة فى تنظيم ما بداخل الخزمة قامت بفتحها وبدأت فى تنظيمها.. لا بحثاً أو تنقيباً عما بداخلها.. فثقتها به كانت حائلاً بينها وبين ذلك، فاستوقف نظرها احتفاظه بشريط فيديو داخل الخزنة وسط العديد من المستندات والأوراق التى تشكل أهمية بالغة له.. فما سر احتفاظه بهذا الشريط.. كان هذا هو السؤال الذى لاحقها وظل يضرب فكرها بعنف.. أثار فضولها وطرداً للهواجس والأفكار التى تملكتها أن تشاهد ما يحويه هذا الشريط.
وكانت المفاجأة التى لم تخطر لها ببال.. ولم تطرأ لها على خاطر.. وما رأته من مشاهد يحتوى عليها هذا الشريط.. إنها لا تصدق ما تراه، ففركت عينيها وأمعنت النظر كنها تعانى من حلم مفزع.. زوجها فى ملابس الزفاف وبجانبه عروسته.
أحست فى تلك اللحظة أن الدنيا قد أظلمت أمام عينيها أكثر من أى وقت مضى فى حياتها.. إنها طعنت طعنة دامية قاتلة أدمت قلبها الملىء بالحب والإخلاص، ورسخ فى وجدانها لأول مرة أن زوجها خائن، وتأكد لها أنه طامع، ويتسم أمام عينيها أنه غادر.. مجرد من المشاعر يلبس قناعاً مزيفاً يخفى وراءه وجهه الحقيقى الملىء بالغدر والخيانة والأنانية، لقد خان الثقة الكاملة، والأموال التى باعت نفسها من أجلها سلمتها له وبكل ثقة وأمانة.
قررت أن تنتقم من زوجها انتقاماُ من نوع جديد ..موجعاً أليماً لا شقة فيه ولا رحمة، قررت أن تعذبه عذابأً أليماً لتشفى غليلها وهى تراه أمام عينيها يذوق مرارة الخيانة ويلعق جراح الندم.
وبدأت تنفذ فصول خطتها بالاستعانة بصديقة لها كانت تعرفها فى الحى الذى كانت تعيش فيه أيام فقرها، كانت تعرف أن زوجها يعمل فى تجارة المواد المخدرة، وحصلت من صديقتها على عقار مخدر الهيروين، وقدمت لزوجها جرعات الهيروين وسط مشروب القهوة الذى كان لا يخرج من مسكنه قبل أن يتناوله من يديها، واستطاعت بهذا الأسلوب الإجرامى الماكر أن تجرده من كل شىء..أن يسجل باسمها كل الأموال والشركة التى كانت بينهما.
لاحظ الجميع ووالدة الشاب التغيير المفاجىء على ابنها بات عصبياً هزيلاً، زائغ البصر، شارد التفكير مهموماً ، زاهدًا مكتئباً غير عابىء بالحياة، حتى إعداده للدكتوراه ألقاه فى سلة المهملات، اصطحبته والدته إلى الطبيب لتوقيع الكشف عليه، فطلب عند التشخيص حالته إجراء عدة تحليلات، وكانت المفاجأة التى هوت على رأس والدته كالمطرقة والتى لم تكن تخطر لها ببال، أو تجول فى حسبانها، إذا ظهرت التحاليل أنه مدمن عقار الهيروين المخدر.
لم تصدق ذلك.. بعد أن أقسم الأبن لها إيماناً مغلظاً وكانت تثق فى صدق حديثه، فتوجهت به إلى معمل أخر لعمل تحليل جديد، فجاءت النتيجة لتؤكد ما جاء بالتقرير الأول .. فكان على الزوج أن يراجع حياته فى الفترة الأخيرة ويستعرضها بكل دقة وتفصيل، وكأنها شريط سينمائى أمام عينيه.. من الذى فعل ذلك؟ وما مصلحته فى تدميره؟.
بدأ الزوج فى الشك فى زوجته بعد تغيرها فى الفترة الأخيرة، وقاده الشك لفنجان القهوة.. تناول بعضاً مما فى داخل الفنجان ووضعه فى زجاجة، كما طلب منه الطبيب المعالج، وأرسله إلى التحاليل، وكانت المفاجأة التى ما كانت تخطر بباله أو تدور بخلده.. القهوة بها مخدر الهيروين.
لكن لماذا فعلت ذلك؟ ما سر غدرها به؟ إنها مؤامرة للقضاء عليه.. لابد أن هناك رجلاً فى حياتها؟ وقد دبر خطة الخلاص منه.. كلها أفكار دارت فى عقل الزوج منذ ان عرف وأيقن أن زوجته وراء كل ما حدث له.
أبلغ الزوج بصحبة والدته إدارة مكافحة المخدرات، وأسفرت المراقبة عن شراء زوجته مخدر الهيروين الذى اعتادت ان تدسه فى القهوة لزوجها.. لتنفيذ خطتها الإجرامية لكن القدر لم يمهلها فقد تم القبض عليها، وتم ضبط الهيروين الذى بدلت به حياة زوجها، وتم ضبطها متلبسة وهى تعد له فنجان القهوة فى الصباح كالمعتاد، ولم تجد أمامها خيار إلا الاعتراف.. لقد اعترفت بكل شىء وقدمت شريط الفيديو الذى قتل حبها ودمر حياتها وحياة من تحب.
ويقول المستشار أبو شقة، تم مواجهتى كمحقق بهذا الشريط وما جاء به فى مواجهة الزوجة التى فوجئت بالحقيقة لأول مرة، وبأنها عاشت فى صراع مع الوهم وكيف أن هذا الوهم كان هو الخنجر الذى ذبحت به نفسها.. وكانت فى سبيلها للإجهاز به على زوجها.
إن شريط الفيديو كان على زيجة قديمة قبل أن يعرها ويقترن بها، وقت أن تعرف عليها كانت قد انتهت هذه الزيجة بالطلاق وأصبحت مجرد ماض.. أسدل عليها ستائر النسيان، وطلب منى كمحقق أن أسجل تفاصيل الحقيقة التى أثر كتمانها، فلم يصرح بها لزوجته حرصاً منه على مشاعرها واستمراراً لحب جمع بينهما ووفاء منه لمواقفها وراء نجاحه وسنداً ودعماً.
ولكى يظل المحبوب الذى رسمته فى مخيلتها حتى لو كان زواجه من امراءة قبل أن يعرفها.. لقد دفعه حبه الشديد لها ألا يفتح صفحة عن ماضٍ أسدلت على أيامه ستائر النسيان.
طويت صفحات القضية بعد أن أتممت تحقيقها وأحيلت المتهمة للمحاكمة، أما الزوج فقد تعالج من الإدمان واستقبل حياة جديدة بابتسامة ملؤها الأمل فى مستقبل مشرق يواصل فيه تحقيق طموحاته بقفة وتفاؤل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة