ذهبت إلي الشاعر الغنائي الكبير أحمد شفيق كامل في مسكنه بشارع الدكتور "حندوسة" لأول مرة عام 1996، كان إعجابي به يسبق اللقاء، فهو مؤلف العديد من الأغنيات الوطنية التي اشتهرت زمن ثورة 23 يوليو 1952، ومنها نشيد "قولوا لمصر"، و"وطني حبيبي وطني الأكبر" وأغنيات قدمها عبد الحليم حافظ وهي"ذكريات" و"حكاية شعب "و"غني ياقلبي" و"نشيد الثأر" و"مطالب شعب" و"خلي السلاح صاحي"..أما أغنياته العاطفية الشهيرة التي قدمتها "أم كلثوم" فكانت "انت عمري "و"أمل حياتي" و"الحب كله" و"ليلة حب"، وأغنية "كلمة عتاب" التي قدمتها وردة الجزائرية من ألحان فريد الأطرش، واستكمل لحنها "بليغ حمدي"
حين دخلت إلي شقته التي يقيم فيها مع زوجته في عمارة مواجهة لمستشفي "قصر العيني" لفت نظري أربع صور معلقة علي جدران حجرة الاستقبال.. كانت واحدة للشيخ محمد متولي الشعراوي يرتدي بدلة، وثانية للشيخ عبد الحميد كشك، ورابعة للشيخ ياسين رشدي، ويتوسطهم صورة له وهو يصافح الرئيس جمال عبد الناصر.
عبرت له عن دهشتي من هذا التكوين للصور، وقلت له مداعبا:"الأضداد يجتمعون هنا".. فأجاب :"هم عند ربهم، وهو وحده يعلم بالنوايا ومافي القلوب..والحقيقة أنا أحبهم كلهم"..كانت هذه الملاحظة مني والإجابة منه بداية لعلاقة استمرت حتي رحيله يوم 8 سبتمبر 2008 قبل أن يستكمل ال84 عاما من عمره، فهو مواليد4 نوفمبر 1923 بحي الحلمية الجديدة بالقاهرة لأسرة تعود بجذورها إلي قرية"مولسة" بمركز أشمون محافظة المنوفية.
كنت دائم الزيارة له والسؤال عنه تليفونيا خاصة وأنه عاش بلا أبناء، مما أتاح لي معرفة أسرار رحلته منذ بداياته وعلاقته بالشاعر أحمد رامي والموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ والموسيقار كمال الطويل وبليغ حمدي وفريد الأطرش، وأهداني تسجيلات نادرة في الغناء، وصور من النوتة الموسيقية لأغنية"انت عمري" لأم كلثوم، وفيها شطب من ملحنها محمد عبد الوهاب لكلمة"شوقوني عينيك" وكتابته لكلمة"رجعوني عينيك". كما غنتها أم كلثوم، وذلك بعد شكوي سيدة الغناء العربي من صعوبة حرف"الشين".
كشف لي سر علاقته بالشيوخ الثلاثة، وأكد لي أنه توقف عن تأليف العاطفى عام 1983، وأن الشيخ الشعراوى، هو الذي أقنعه..يقول :"ارتبطت بالشيخ الشعراوي بعلاقة وطيدة، كنا نتزاور، وقبل أن أخرج إلى المعاش بفترة قال لى:"إنت غنيت يا أحمد للدنيا كتير، وسيبك من كده، واعمل للى إنت رايح له".
كان الشيخ "كشك "من نجوم الخطابة بالمساجد منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت خطبه يتم نسخها علي شرائط كاسيت وتنتشر بين سائقي الميكروباص، والمحلات التجارية في المناطق الشعبية، وكانت الجماعات الإرهابية تشجع ذلك، فهو يعمل وفقا لأجندتها، وكان يختصر لها خطوات فيما تدعيه من ضرورة "أسلمة الشارع " وتكفير الذين يرفضون، وفي هذا السياق كان يشن هجومه علي الفن والغناء إجمالا..ولم تسلم أم كلثوم من هجومه، فعن أغنيتها «إنت عمرى» قال:"امرأة فى الثمانين من عمرها تقول:«خدنى فى حنانك خدنى..يا شيخة ربنا ياخدك»، ولأن أحمد شفيق كامل هو مؤلفها، كان من الطبيعي أن أندهش من صورة الرجل المعلقة في صالون منزله، ومع مرور الوقت في علاقتي به كشف لي السر.
قال لي:"كنت أسمع هجومه الكاسح على"أنت عمري"، فأتعجب من تندره على أم كلثوم، وأتضايق من استخفافه بكلمات الأغنية،وأذكر أننى أثناء الفترة التى كنت أعمل فيها فى التمثيل التجارى بالسفارة المصرية فى تركيا كان لى صديق في العمل، وصديق حميم له، وتصادف وقتئذ قيامى بأداء شعائر الحج لأول مرة فى حياتى، وأثناء اجتماع الفوج الذى أنا فيه بالسويس استعدادا للسفر، وقعت مشكلة فقهية بينى وبين الواعظ الدينى الذى عينته الحكومة لإلقاء درس دينى علينا، حول الحديث الشريف:«أى لحم من نبت حرام النار أولى به".
يضيف :"كنت أتصور أن «اللقيط فى الشارع» هو المقصود بكلمة"اللحم" فى الحديث الشريف، وبناء على ذلك سألت الواعظ :«اللقيط ده ذنبه إيه عشان يدخل النار؟»، لكن الشيخ لم يجب عن سؤالى بما يكفى، واستمر انشغالى بالقضية إلى ما بعد الحج، فطلبت من صديقي وصديق الشيخ كشك، أن يسأله، لكن"كشك" رد عليه:«هو مال صاحبك ومال الحاجات الدينية دى، خليه مع انت عمرى وكلام الهلس اللى بيكتبه»، فرد عليه صديقى:«أحمد رجل متدين وطيب، ويحتاج إلى نصائحك الدينية فلا تبخل عليه بها»، فهدأ وأجاب علي سؤالى، وحملها صديقى إلىّ، واسمعني ما قاله عنى."
من تركيا إلى السعودية وتحديدا فى جدة، يأتى التطور الثانى يتذكره شفيق:«كنت أعمل وزيرا مفوضا فى جدة، وأسكن فى الطابق الخامس بعمارة يملكها رجل سعودى، وكلما صعدت بالأسانسير، كنت أتأكد من وجود صاحب العمارة من خلال شرائط كاسيت كشك، فهذا الرجل لم يكن يسمع غير خطبه، ويترك صوت الكاسيت مرتفعا بدرجة لافتة، وفى كل جلساتى معه كان دائم الحديث عنه، حتى نصحته بالنزول إلى القاهرة، والذهاب إلى مسجده فى دير الملاك بمنطقة حدائق القبة للالتقاء به، وجاء بالفعل إلى القاهرة، وتعارفا وأصبحا صديقين، ودعاه الرجل «السعودى» لتأدية فريضة الحج، وخلالها بدأ تعارفنا".
يؤكد "شفيق " تعمقت علاقتي به مما سمح بأن نتحدث في كل شيء، عن الشعر والموسيقى والغناء والسياسة وعبدالناصر والسادات، كنت مثلا أحب جمال عبدالناصر وأراه زعيما لا يضاهيه أحد، لكنه كان يراه «طاغية وديكتاتورا»، ومع ذلك بقى كل منهما على عهده فى رأيه..يقول شفيق: «الحاجات اللى كان فيها خلاف بينا زى كده، لم نكن نقترب منها كثيرا، خاصة وان دماغه كانت زى الحجر، والرأى اللى فيها لازم يقوله مهما كانت العواقب".
حين سألت شاعرنا الكبير عن هجومه على أغنية «انت عمرى»، أخذنى إلى السكة التى فاجأتنى، وهى علاقة "كشك "بالغناء. .قال:"كان يحب الغناء لكن ليس أى غناء، كان سميعا للأغانى بدرجة تفوق الامتياز، وكان عنده تذوق عال للنغمة الموسيقية الجميلة، وكلمة الأغانى الحلوة، وكان يحب صوت محمد عبدالوهاب بل يعشقه، وحب عبدالوهاب بالتحديد كان من الحاجات اللى قربتنا من بعض، فأنا أرى أن صوت عبدالوهاب هو أجمل صوت بشرى فى الغناء، وهو كان يعشق كل أغانيه القديمة، مثل..«يا جارة الوادى»، و«فى الليل لما خلى» و« جبل التوبات»، و«الجندول» و«كليوباترا» و«لك يوم يا ظالم» و«النهر الخالد»، وأغان أخرى، ولما عرف أننى من هواة جمع التسجيلات الغنائية النادرة القديمة، كان يسألنى:«إيه أخبار أغانى عبدالوهاب القديمة عندك؟»، وغالبا تأتى إجابتى عليه بهدية، والهدية عبارة عن شريط كاسيت عليه بعض هذه الأغانى، فيطير فرحا بها".
يتذكر"شفيق" أول زيارة له إلى منزله:«لم يكن هو يعرف شيئا عن هذه الزيارة، فقرارها كان منى دون إبلاغه، وكنت أسعى إلى كسب وقت كبير للكلام معه فى أمور دينية كانت تشغلنى كثيرا،وبعد أن ذهبت إلى المنطقة وسألت عن مسكنه، شعرت بالتأخير فقررت تأجيل الزيارة إلى اليوم التالى..ولما ذهبت إليه فى اليوم التالى قلت له:«على فكرة يا مولانا، امبارح أنا جيت عشان أعرف البيت قبل ما اجى لك النهارده..يعنى أنا عملت زى عبدالوهاب ما بيقول: «مريت على بيت الحبايب..وقفت لحظة»، يستكمل شفيق ضاحكا:"أنا قلت كده، وهات يا ضحك منه، وقال:«يا سلام عليك يا عبدالوهاب»، ثم فاجأته بقولى: «معايا هدية لك هاتعجبك يا مولانا»،رد:«أكيد شرائط لعبد الوهاب»..والهدية كانت شرائط جديدة، لأغاني عبد الوهاب بإيقاعات عصرية جديدة."
يتذكر"شفيق" أول زيارة له إلى منزله:«لم يكن هو يعرف شيئا عن هذه الزيارة، فقرارها كان منى دون إبلاغه، وكنت أسعى إلى كسب وقت كبير للكلام معه فى أمور دينية كانت تشغلنى كثيرا،وبعد أن ذهبت إلى المنطقة وسألت عن مسكنه، شعرت بالتأخير فقررت تأجيل الزيارة إلى اليوم التالى..ولما ذهبت إليه فى اليوم التالى قلت له:«على فكرة يا مولانا، امبارح أنا جيت عشان أعرف البيت قبل ما اجى لك النهارده..يعنى أنا عملت زى عبدالوهاب ما بيقول: «مريت على بيت الحبايب..وقفت لحظة»، يستكمل شفيق ضاحكا:"أنا قلت كده، وهات يا ضحك منه، وقال:«يا سلام عليك يا عبدالوهاب»، ثم فاجأته بقولى: «معايا هدية لك هاتعجبك يا مولانا»،رد:«أكيد شرائط لعبد الوهاب»..والهدية كانت شرائط جديدة، لأغاني عبد الوهاب بإيقاعات عصرية جديدة."
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة