- صندوق النقد الدولى يتوقع انكماشا عالميا بـ3.3% يقفز إلى 6.1% للدول المتقدمة
- السياحة تفقد 450 مليار دولار فى مؤشرات مارس.. وتعقد الأزمة ينذر بمزيد من النزيف
- مستقبل عاصف لأسواق العمل.. واحتمالات التباطؤ تهدد 160 مليون وظيفة حول العالم
- مصر الوحيدة بالشرق الأوسط صاحبة النمو الإيجابى بـ2%.. ودول الخليج الأكثر تضررا
- الأزمة تهدد 1.6 تريليون دولار بقطاع السيارات.. والنفط يعصف بدول الوفرة والأسواق الناشئة
- خسائر محتملة بـ9 تريليونات دولار.. و6 للتجارة و2.4 تريليون للخدمات
- انكماش الاقتصاد الأمريكى 5.9% واليابان 5.2 وبريطانيا 6.5 وألمانيا 7 وفرنسا 7.2 وإسبانيا 8 وإيطاليا 9.1 وقطر 4.1%
- مخاوف متصاعدة من التباطؤ والتضخم.. والتنشيط قد يضرب أسواق المال ويتسبب فى منافسة غير عادلة على الفوائض المالية
تريليونات الدولارات تحترق. فواقد بالمليارات من كل القطاعات، ملايين الوظائف ستتآكل، ومثلها أسر ستتهاوى دون خط الفقر، وعشرات الآلاف من الأنشطة والشركات والمشروعات قد تضطر إلى تقليص أعمالها، أو تغادر المشهد تماما.. تبدو الصورة السابقة سوداوية متشائمة، لكنها على الأرجح أقرب التصورات الموضوعية بشأن مستقبل الاقتصاد العالمى فى غضون التفشى الواسع لفيروس كورونا المستجد "كوفيد 10"، ولشهور طويلة بعدما يتجاوز الكوكب عقبة الوباء، وذلك فى ضوء المؤشرات المتاحة، والأرقام المسجلة حتى الآن، وتوقعات المؤسسات المالية المعتبرة!
حتى قبل يومين كانت الصورة مزعجة. محنة لم تُرسم حدودها الكاشفة بعد، وآفاق يكسوها الضباب، وآمال متفائلة لا تجد ما يُعززها إلا النوايا الطيبة، لكنها ظلت قسوة مُحتملة وقابلة للاستيعاب نسبيا، لولا أن الأمور استمرت فى التقلب على نحو مفارق لرغبة العالم، فكما كانت الصباحات الجديدة تحمل تطورات سلبية على صعيد انتشار الفيروس وخسائره البشرية، كانت فى الوقت نفسه تُضيف ملامح أكثر رمادية ومنعطفات أشد تعرجا إلى منحنى الأداء والآفاق المحتملة للاقتصاد. التدرج النامى بوتيرة سريعة التصاعد على مستوى الإصابات والوفيات، يوازيه صعود متطابق الإيقاع فى القراءات المتوجسة لتفاعلات الأسواق الوطنية والعالمية، وما قد تؤول إليه فى المديين الآنى والمتوسط. باختصار كان الموقف العام سيئا، لكنه بات الآن أسوأ كثيرا مما كان عليه، وما توقعه أمهر المختصين وأشدهم تشاؤما!
توقعات سوداء لاقتصاد العالم
رغم الاضطراب واسع المدى الذى يغلف أجواء الاقتصاد العالمى، إلا أن الأمور لم تصل ذروتها الأسوأ بعد. حتى الآن ما تزال الأزمة فى بدايتها، فالوباء الذى بدأ من الصين أواخر ديسمبر الماضى وشق طريقه العالمى بين يناير وفبراير، لم يعبر شهره الرابع. تلك المعادلة الزمنية تعنى أن كل الضرر المُسجل حتى الآن يخص ربعا واحدا من عام كامل، وأنه بالضرورة سيتضاعف مرات كلما طال أمد الأزمة عبورا للأرباع المقبلة.
فى تلك المرحلة المتقدمة التى لم تتكشف فيها حدود المحنة العالمية كاملة، كانت الأرقام والتوقعات بالغة القسوة. مؤسسات مالية عالمية عدلت توقعاتها لنمو الناتج العالمى من نحو 3 إلى أقل من 1.5%، وكان بنك جولدمان ساكس أكثر قسوة بحديثه عن انكماش بنسبة 1%. فى تلك الرؤى كانت الخسائر تتراوح بين فقدان 800 مليار دولار من توقعات الناتج السابقة، أو تسجيله تراجعا بـ700 مليار دولار عن مستويات 2019. لكن للأسف تنامت الأزمة، وزاد معها حجم الخسائر الحالية، وما قد يتكبده العالم فى المستقبل القريب.
أحدث الرؤى وأشدها قسوة جاءت ضمن تقرير آفاق الاقتصاد العالمى، الذى يصدره صندوق النقد الدولى، إذ توقع خبراء الصندوق أن يفقد الناتج العالمى أكثر من 3% من قيمته بالعام السابق، وأن تنمو تلك الفواقد إلى مستوى 3.3% فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ورغم أنه كان إيجابيا فيما يخص مصر بتوقعه نموا صاعدا بـ2%، إلا أن تلك النسبة الموجبة نفسها لا تقل سوءا إذا وضعت مقابل مستهدف رسمى لمصر عند 6%، أو توقعات سابقة لمؤسسات مالية وبنوك استثمار ومراكز تصنيف ائتمانى تراوحت بين 3.7 و4.1%.
تفكيك القراءة المُجملة لآفاق الاقتصاد الإقليمى تضفى مزيدا من القلق والتوجس، خاصة أن مكونات الانكماش المتوقع تتركز بصورة أكبر فى بعض الأسواق الحيوية بالنسبة لمصر، سواء على صعيد استقبالها حصة من صادراتها الزراعية والصناعية، أو احتضانها للنسبة الأكبر من قوة العمل الخارجية بما تشكله من مورد مهم للنقد الأجنبى. وبحسب خريطة توقعات الصندوق فإن اقتصاد السعودية سيفقد 2.3%، والإمارات 3.5%، وقطر 4.3%، وعمان 2.8%، والكويت 1.1%.
عالميا توقع الصندوق أن يكون الانكماش بواقع 3% من الناتج الإجمالى، لكنه قدر الخسائر المحتملة بـ9 تريليونات دولار تشكل أكثر من أربعة أضعاف النسبة السابقة. وعلى صعيد الاقتصادات المتقدمة كانت الضربة دموية بقدر أكبر، إذ وضع التقرير متوسطا للانكماش عند 6.1%، كان توزيعه التفصيلى: 5.9% للولايات المتحدة، واليابان 5.2%، والمملكة المتحدة 6.5%، وألمانيا 7%، وفرنسا 7.2%، وإسبانيا 8%، وإيطاليا 9.1%، وذلك مقابل انكماش بنحو 1% للأسواق الناشئة.
تلك الصورة مفادها أن العام الجارى سيكون فترة دامية للغاية، بقدر يتجاوز أزمة الرهن العقارى بالعام 2008، ويصعد بها بعض المختصين إلى حدود الكساد الكبير الذى ضرب العالم وعطّل قدراته الاقتصادية تماما إبان ثلاثينيات القرن الماضى، والخلاصة بعيدا عن تحليل الأرقام واستقراء تأثيراتها العملية على الأسواق، أن خيال الاقتصاديين يستشرف آفاقا سوداء وبالغة الضيق لأداء الأسواق الوطنية والعالمية، لا فارق فى ذلك بين الدول المتقدمة والنامية، إذ سيتبادل الطرفان التأثيرات الضارة لكل منهما، سواء فى صورة تقلص للإنتاج ومعروض السلع والخدمات، أو تراجع حاد فى الطلب على هذا المعروض الضئيل أصلا!
نزيف للبضائع والوظائف والخدمات
تبدو خريطة التراجع أفقية، إذ تطال تداعيات الأزمة كل القطاعات دون استثناء، لكن تظل هناك مجالات وأنشطة أكثر تضررا، خاصة مع اضطرار بعض الدول لاتخاذ تدابير مشددة لتحجيم التقارب الاجتماعى من خلال قرارات طويلة بالإغلاق الكامل أو الجزئى، مع تعليق الطيران وخطوط النقل البرى والبحرى وإغلاق المطارات والمعابر الحدودية. فى تلك الحالة المشددة من التقوقع تعلو خسائر قطاعات النقل والخدمات والسياحة والترفيه، وبالضرورة تتقلص مستويات تداول السلع والخدمات وطنيا، ومؤشرات التجارة البينية للدول والشركات.
أواخر الأسبوع الماضى توقعت منظمة التجارة العالمية أن يتراجع حجم تداول السلع والخدمات بين الدول بنسبة الثلث عن مستويات 2019، وبالنظر إلى قيمة التجارة العالمية البالغة نحو 20 تريليون دولار، فإننا نكون إزاء فواقد تقريبية بـ6 تريليونات، أبرزها السيارات البالغة 8% بأكثر من 1.6 تريليون دولار، يُرجح أن تفقد القدر الأكبر من تدفقاتها أو تتوقف تماما، خاصة مع تقييد الحركة وانكماش الطلب وتعطل النقل التجارى وإغلاق المصانع أو تحول بعضها لإنتاج المستلزمات الطبية، وأيضا الخدمات التجارية التى تتجاوز 25% من إجمالى التداولات بواقع 5.8 تريليون دولار، من المتوقع أن تفقد جانبا ضخما من قيمتها مع تراجع الطلب وإعادة توجيه الإنفاق الاستهلاكى المحدود حاليا للسلع والاحتياجات الأساسية.
فيما يخص السياحة مثالا، فإن الصورة النهائية لأداء القطاع غير واضحة حتى الآن. فى وقت سابق توقعت منظمة السياحة العالمية أن تتراجع حركة الأفراد بين 1 و3%، ثم عدلت تلك الرؤية أواخر مارس إلى ما بين 20 و30% مع فواقد محتملة بنحو 450 مليار دولار، لكن مع تطور الأزمة واتساع تأثيراتها خلال الأسبوعين الأخيرين فإن توقعات المنظمة المتفائلة قد لا تصمد طويلا، ما يعنى أن الضرر قد يقود نسبة أكبر من إيرادات القطاع التى سجلت بين 1.5 و1.7 تريليون دولار فى 2018 و2019.
محصلة الرؤى الجزئية للمؤسسات الدولية ومن يقدمون افتراضات مستقبلية بشأن مناخ الاقتصاد المتوقع، تُرجح اصطدام العالم بأزمة إنتاجية ومالية تتعدى المدى الزمنى المحتمل للوباء، وقد تترك آثارا مباشرة على الأسواق وأدائها العام لربعين تاليين للانفراجة الصحية على الأقل. مكونات تلك الأزمة تُشكلها فواقد التباطؤ الحالى، وضغوط التشغيل والإنتاج وتراجع الطلب فى المديين القريب والمتوسط، وكُلفة الاستثمار المرهقة فى الشهور القليلة التالية لانحسار الوباء، وأخيرا إعادة ترتيب خريطة الأولويات والإنفاق للحكومات والأفراد على السواء. أى أننا بينما نخوض فى طور التعافى من "كوفيد 19"، سنكون أسرى حالة ممتدة مرحليا من نزيف البضائع والخدمات والوظائف، بما يمثله ذلك من ضغوط إضافية على قدرات العرض، وعلى مستويات الدخول ومع توفره من فوائض ادخارية وتدفقات متنامية لتغذية الطلب والإنفاق الإستهلاكى.
مخاوف التباطؤ ومخاطر التنشيط
محاولة فك القيم النسبية لتوقعات المؤسسات بشأن مستقبل الاقتصاد، ربما تقود إلى سيناريوهات مزعجة فيما يخص كُلفة الأزمة. نسبة 3.3% نموا سلبيا ضمن توقعات صندوق النقد الدولى تتجاوز 2.3 تريليون دولار. فى الوقت نفسه فإن ما توقعه خبراؤه بشأن انكماش الاقتصادات المتقدمة بمتوسط 6.1% يتجاوز 4.2 تريليون دولار، بالنظر على سبيل المثال إلى أن مجموعة العشرين تشكل نحو 94.2% من الناتج العالمى بواقع 66 تريليون دولار تقريبا.
يقع الضرر المباشر بدرجة أكبر على الأسواق الرائدة، لكن انعكاساته ستكون أكثر حدة على الدول النامية والاقتصادات الناشئة. فمن جانب تمثل الدول الكبرى موردا مباشرا لكثير من الاحتياجات الضرورية، ومن جانب آخر توفر طلبا جيدا على صادرات تلك الدول من السلع الزراعية والخامات الأولية وقوة العمل، فضلا عن أنها المكون الأكبر لموارد المؤسسات الدولية وتدفقات المنح والمساعدات. ومع تعاظم المشكلات الداخلية بالنسبة لكل الدول، فلن يكون بمقدور أى منها المبادرة إلى مساعدة الآخرين بصورة فعالة ومؤثرة.
على صعيد قوة العمل فإن الأسواق قد تشهد فقدانا لعشرات الملايين من الوظائف. إذا انعكست مؤشرات الانكماش المتوقعة بالنسب ذاتها على مكونات الأسواق فإن تلك الخسائر الفادحة ستدفع مئات الآلاف من الشركات والأنشطة والمشروعات إلى تقليص أعمالها، أو تضطرها لمغادرة السوق بالكامل، مع ما يحمله ذلك من تراجع لقوة العمل ونمو لمؤشرات البطالة. تبلغ قوة العمل العالمية 3.3 مليار شخص وفق تقديرات العام 2013، مع نمو سنوى بأكثر من 2% تتجاوز 60 مليون وظيفة. تعطل النمو معناه عجز السوق عن تدبير وظائف جديدة، وانكماشها بمتوسط 3% عالميا يعنى خسارة نحو 100 مليون وظيفة، ومثلها أسر ستُضاف إلى مجموع الفقراء، مع انعكاسات ذلك على الإنفاق ومستويات الطلب الحالية وفرص نموّها مستقبلا، وذلك ما لم تتدخل الحكومات بإجراءات عاجلة وتدابير واسعة المدى لتنشيط الأسواق وتحسين مناخ العمل بما يُعزز قدرة الشركات والأفراد على المقاومة، وركوب تلك الموجة الجارفة بدلا من الانزلاق معها إلى المجهول!
أمام مخاوف التباطؤ تبدو خيارات الحكومات والفاعلين الاقتصاديين محدودة، إذ لا بديل عن حزم تنشيط مكثفة لصيانة هياكل الأسواق وتدعيم قدرتها على ضمان قدر إيجابى من معادلة الجدوى، لكن المشكلة أن خطط التحفيز نفسها تنطوى على مخاطر لا تقل قسوة. إذ إن اتجاه الحكومات إلى هذا المسار يقتضى تقليصا كبيرا للضرائب والرسوم مع إعفاءات ودعم مالى مباشر، ومع تكبد تلك الدول خسائر قاسية جراء الأزمة وفاتورة التدابير الاحترازية، فلا بديل عن تعويض تلك الفواقد عبر أدوات الدين الحكومية، ما يعنى فائدة مرتفعة على السندات ومنافسة غير متكافئة مع المؤسسات والأفراد على الفوائض المالية للمصارف والمستثمرين. هذا المسار الذى يوفر للإدارة الحكومية موارد كافية لتغطية الخسائر ومتطلبات التنشيط، يضغط على أسواق المال ويسلب الشركات نسبة كبيرة من المحفظة الائتمانية المتاحة لتدبير احتياجاتهم للتشغيل والنمو، كما يقلص مستويات الائتمان الشخصى الضرورى فى مرحلة التعافى لتعزيز الإنفاق الاستهلاكى وتنشيط الطلب على السلع والخدمات!
مبادرة الحكومات بالتوسع فى إجراءات التحفيز قد تُقوّض قدرة الأسواق على إدراة تحدياتها وتنشيط مناعتها وصولا إلى التعافى الذاتى، وتراجعها لإفساح المجال للشركات والأفراد ربما يتسبب فى اختلال ميزان العرض والطلب، خاصة بالنظر إلى الأثر السريع للقروض الشخصية فى خلق طلب كبير فى مدى زمنى محدود، مقابل بطء القدرات الإنتاجية وعجزها عن استعادة عافيتها وإتاحة معروض مكافئ خلال الفترة نفسها. وهكذا تظل الأسواق بين احتمالين: تدابير رسمية تضبط الإيقاع لكنها تعطل وتيرة التعافى، أو مبادرات مؤسسية وفردية تحفز بعض مكونات السوق، لكنها قد تضغط على مكونات أخرى. وبين الاحتمالين تظل الكُلفة باهظة، وتداعيات مخاوف التباطؤ ومخاطر التحفيز مقلقة، كما أنها غير منظورة ولا يمكن التنبؤ بها كاملة، أو المجازفة بالسير نحوها دون خطط مُسبقة لإدارة التداعيات، وامتلاك مسارات بديلة وحلول مرحلية سريعة.
حتمية التوافق وتكامل الجهود
السوق العالمية الآن أقرب إلى غرفة مغلقة، وليس بوسع أى من المحتجزين داخلها الإفلات بمفرده، لأنه لا منافذ أو ثغرات تلوح فى الأفق الراهن، والهواء الملوث سيتسرب إلى صدور الجميع ليعود محملا بمزيد من الجراثيم ومسببات الأمراض. الحل الوحيد بدلا من مناورة التقاط الأنفاس على فترات متباعدة، أو الصراع على هواء راكد أصلا، أن يتفق الجميع على هدم الجدار والخروج معا!
بينما تتضرر الدول الكبرى وتتعطل قدراتها الإنتاجية، تهتز أسواق أخرى ربما تبدو نظريا خارج معادلة الإغلاق وآثارها على الإنتاج، لكن عمليا يفرض قانون الغرفة الواحدة نفسه. الآن تعانى الاقتصادات الريعية ودول الوفرة النفطية على سبيل المثال بقدر لا يقل عن المعاقل الصناعية ومراكز التجارة الدولية، وحتى مع قرار منظمة الدول المصدرة للبترول وحلفائها فى تجمع "أوبك +" تقليص الإنتاج بنحو 20% ضمن خطط متدرجة حتى 2022، لم تشهد أسعار الخام تعافيا يمكن التعويل عليه، بعدما خسر البرميل أكثر من 50% من قيمته خلال أقل من شهرين، ومن المحتمل أن تمتد تلك التداعيات إلى نهاية العام أو ربيع 2021. مجموع تلك التأثيرات يلقى بظلال رمادية كثيفة على الأسواق الناشئة، التى لن يكون بمقدورها الإبقاء على مواردها المعتادة من الصادرات البسيطة، أو توفير متطلبات أسواقها وإشباع الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. ومن هنا تفرض الأزمة على الجميع شروطا مغايرة تماما لأنماط المنافسة والصراع التقليدية، إذ تبدو عناوين مثل التوافق والتضامن وتكامل الجهود والعمل المشترك أمورا مُلحة وحتمية.
من غير المرجح أن يستعيد الاقتصاد العالمى عافيته خلال العام الجارى، حتى لو انقضت الأزمة الصحية وانحسر وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" خلال ساعات. ستظل التداعيات التى فرضتها ضغوط الشهور الماضية ثقلا جاسما على صدر السوق، وبطبيعة الحال سيتزايد وزن الأثقال كلما طال مدى الوباء!
فى ضوء تشابك الظروف والمواقف، رغم اختلاف أوضاع الدول ومستويات تضررها من الأزمة، فإن الأمر يتطلب مزيدا من العمل المشترك عبر المؤسسات الاقتصادية الدولية والإقليمية، أو التنسيق المباشر بين الحكومات والمراكز الاستثمارية العاملة فى كل قطاع. يحتاج المسار المقبل إلى اتفاق على آليات عمل، وإدارة فعالة للمخاطر، وإعادة ترتيب للأولويات، وقدر عال من الوعى والرشد فى التعاطى مع المخاطر، واتخاذ القرارات على أرضية موضوعية تتجاوز المماحكات والكيد والنزاعات المعتادة فى الظروف الطبيعية. والأهم أن تتحرك القوى الاقتصادية على تفاوت إمكاناتها بما يضمن الوصول إلى أقصى قدرة ممكنة وأوسعها نطاقا من الكفاءة والفاعلية، بالقدر الذى يضمن تنشيط كل الأسواق بالتزامن، والإبقاء على قدرات تكفل لها الاستدامة الداخلية، وتتيح فائضا يصب فى اتجاه دعم الآخرين وتعزيز قدراتهم.
الفكرة السابقة ملخصها أن تُبقى كل دولة عينا على محيطها الخارجى، وبينما تعمل على مداواة جراحها، تسهم على التوازى فى تعافى الآخرين، ليس انتصارا للإنسانية والقيم وواجبات التضامن فقط، وإنما لأن سلامة الأسواق المحيطة ستكون عونا مباشرا لها، كما أنه لا فائدة كبرى من أن تكون صحيحا فى غرفة مغلقة مع المرض وحامليه. يتطلب ذلك تنسيقا بشأن الإجراءات الاقتصادية وحزم التنشيط ومستويات الفائدة، وعملا أكبر على تقويض مؤشرات البطالة والتضخم، مع ضمان أفضل قدر من انسيابية معروض السلع والخدمات بين الأسواق وفق أوزانها النسبية، وتعزيز قدرات التشغيل والنمو، والعمل على تنشيط الإنفاق الاستهلاكى، ودعم قطاعات النقل والسياحة والخدمات التجارية، وتخصيص حزم تنشيط عاجلة للأسواق الناشئة، مع توجيه المؤسسات الدولية لاستهداف الفقراء والمهمشين بصورة أكبر، وتحسين أنظمة الرعاية الصحية ونوعية الخدمات الطبية بالدول النامية، وغير ذلك من الإجراءات الداعمة لهياكل الاقتصاد ومكوناته المختلفة، والمحفزة لكل الأطراف على الإسهام فى خريطة النمو، وتمكينهم من التعامل مع تلك النوعية من المخاطر والأزمات حال تكرارها.
الجميع يعيشون محنة حقيقية معا. نبدو فى خضم أزمة أعمق من 2008، بينما نواصل السير بوتيرة متعجلة إلى مخاطر تماثل كساد العالم الكبير قبل تسعة عقود، وخزائن العالم الآن تحترق فى نيران فيروس كورونا الجديد، وما لم يقرر المجتمع الدولى بوضوح الانحياز إلى الحصافة والاتزان فى إدارة أزمته، فإنه قد لا يستفيد منها كثيرا، وحتى لو تجاوزها فى غضون أسابيع أو أيام، سيظل أسير تداعياتها شهورا طويلة، وستظل خزائنه فى قبضة النيران المحتدمة الآن، وتحت رحمة أية حرائق طارئة قد يحملها المستقبل، أو تجددها الأوبئة وأمراض الغرف المغلقة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة