كانت عقارب الساعة تقترب من الحادية عشر صباحا، يرن جرس الهاتف داخل غرفة فريق التدخل السريع التابع لوزارة التضامن. فيجيب شاب يدعى سامح أحد أعضاء الفريق ويدور الحديث التالى مع أحد المواطنين.
- ألو.. نعم يا فندم معك فريق التدخل السريع، جاهزون لتلقى الاستغاثة.
- نرجو منك إعطاءنا التفاصيل كاملة، سن الحالة تقريبا ومكان تواجدها وهل برفقة أحد أم بمفردها
دون "سامح" المعلومات كاملة ثم اتجه لبقية أعضاء الفريق بجواره، وجلسوا جميعا يبحثون الأمر ويعدون خطة التحرك.
استقل أعضاء الفريق وعددهم خمسة أفراد "ميكروباص" الوزارة من أمام المبنى واتجهوا في طريقهم لبحث الحالة ومن هنا بدأت الرحلة .
معايشة كاملة استمرت لمدة 6 ساعات قضاها "اليوم السابع" برفقة فريق التدخل السريع، لمساعدة المشردين ، رصدنا خلالها كافة المراحل التى تمر بها عملية الإنقاذ بداية من تلقى البلاغ أو الشكوى مرورا بدراسة الحالة وفحصها طبيا وصولا لمرحلة إيداعها في دار رعاية لتتلقى الاهتمام اللازم.
المحطة الأولى: "رصيف الشارع"
"نجاة" بطلة هذه القصة ، سيدة في الستينات من عمرها تعيش برفقة ابنها ذو الأربعة عشر عاما على أحد أرصفة منطقة المهندسين .
خرجت للشارع منذ شهرين تقريبا بعدما تركت بيت شقيقها لسوء معاملته لها على حد قولها .
أسفل فراش مهترئ يحميهم من لسعات البرد بالكاد، كانت تنام الأم برفقة ابنها ملامح وجههما الشاحب دليل على معاناتهما من سوء التغذية، ملابسهما وجسدهما المتسخ والرائحة الكريهة المنبعثة منه دليل أخر على إنهما هجروا المياة لفترات طويلة .
نجاة وابنها يعيشان على أحد أرصفة منطقة المهندسين
تقول نجاة " الأم " ساردة تفاصيل حكايتها : كنت أعمل موظفة في إحدى المصانع وزوجى رجل صنايعي كان يعمل معى في نفس المكان، تعرفنا وعشنا قصة حب رائعة، تزوجنا وبعد مرور خمسة عشر عام انفصلنا بعدما رزقت بطفل عمره الآن ١٤ عاما وأخرى تبلغ ١١ عاما "
وتتابع بفصاحة لسان تتعجب لها : تنقلت بأطفالي هنا وهناك بحثا عن سكن يجمعنا ولكننا فشلنا ، كانت دائما ما تحدث مشاكل معى من قبل الأشخاص الذين استأجر منهم الشقق، إما بسبب الإيجار أو لأنهم يستقوون على لعلمهم اننى أعيش بمفردى ، فقررت أن استقر عند أخى "
السيدة نجاة على رصيف الشارع
خلافات كثيرة وقعت بين نجاة وشقيقها، كانت نتيجتها طردها من المنزل وخروجها للشارع: "زوجته كانت تكرهنى، وتوسلت إليه أن أترك عنده ابنتى فقط تعيش معه تحت سقف منزل وأربعة حيطان بدلاً من خروجها معنا للشارع.. أنا هقدر على الشارع أنا وابنى لكن بنتى لا.. وفى النهاية سبب ما أنا عليه الآن يمكن إيجازه بجملة واحدة التفكك الأسرى".
أنهت "نجاة" حديثها ونهضت من مكانها على الرصيف برفقة طفلها وتحركت بصحبة أعضاء الفريق دون أن تدرك شكل الحياة الجديدة التى تنتظرها، وكأن الله بعث بهذا الفريق لمساعدتها استجابة لدعوتها: "يارب نفسى بس أحس بالأمان والراحة النفسية " ، هكذا كانت ترفع يدها وتخاطب ربها دوما".
فريق التدخل السريع تم انشاؤه في أكتوبر 2014، وموجود فى كل محافظة بإجمالى 115عضو علي مستوى الجمهورية ويعمل فى ثلاثة محاور، الأول شكاوى دور الرعاية الاجتماعية، الثانى شكاوى مواطنين بلا مأوى (اطفال-كبار) والثالث الحالات الإنسانية.
يقول محمد يوسف رئيس الفريق، أن الأخير يتلقى الشكاوى من مصادر متعددة منها تكليفات وزيرة التضامن الاجتماعي الدكتورة نيفين القباج، أو الخط الساخن للوزارة 16439 أو عبر منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة 16528، وما يتم تداوله على صفحات السوشيال ميديا ويتم رصده بوحدة الرصد بالوزارة.
وحتى الآن تعامل الفريق مع عدد 15324حالة ما بين شكاوى دور الرعاية الاجتماعية وشكاوي وجود مواطنين بلامأوى فى الشارع وحالات إنسانية أخرى .
المحطة الثانية: "الفحص الطبى"
أمام لافتة "حميات إمبابة" استقرت السيارة، كان بداخلها أعضاء الفريق وبرفقتهم "نجاة" ونجلها ، "جاءت المرحلة الثانية وهى فحصها طبيا للتأكد من خلوها من أى أمراض قبل إيداعها في دار الرعاية " هكذا قالت الدكتورة عبير المستشارة النفسية للفريق .
نزل سامح من الميكروباص وأسرع للدخول اولا لعرض أوراق "نجاة" على القائمين على المستشفى وشرح الدور الذى يقوم به الفريق لمساعدتها ، دقائق معدودة ولحقنا به جميعا مرتدين الكمامات ومعنا "نجاة"
في الداخل اتجهنا لوحدة الطوارىء لإتمام عملية الكشف السريع من حيث قياس معدل ضغط الدم ونسبة السكر والاكسجين وكانت النتيجة جيدة . وبعد ذلك اتجهت نجاة لغرفة الاشعة المقطعية للتأكد من سلبية إصابتها بفيروس كورونا وهذا فعلا ما تبين .
عاد الفريق مرة أخرى للسيارة وبصحبتهم كافة الأوراق والأشعة التى تثبت الحالة الصحية "لنجاة" لتأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة داخل دار الرعاية .
المحطة الثالثة : "ونس الرعاية"
في منطقة بولاق الدكرور كانت المرحلة الثالثة ، داخل دار الخير للرعاية ، كان العاملون في انتظار نجاة بالمواد المطهرة بعدما اخبرهم الفريق انها ستمكث معهم فترة لحين توفير مسكن لها برفقة طفليها .
دقائق وظهرت " ماما هانم " مسؤولة الدار هكذا يلقبونها وبعد كلماتها الترحيبية لنجاة ، عددت لها شروط الدار وقواعده " نحن هنا أهل واتعهد لك بتحقيق كل ترغبين فيه ولكن بشروط الخروج من الدار يكون في أضيق الحدود وبرفقة المشرفات وإذا أردتى أن ترحلى اخبريني، والتواصل معى يكون صريح ومباشر .
السيدة نجاة ومسؤولة الدار
تجولت "نجاة" داخل الدار ممسكة بشنطة بلاستيكية بها أوراقها الشخصية والرقم القومى الخاص بها، صافحت نزيلات الدار جميعهن سيدات تجاوزن الخمسين خرجت للشارع بعدما تركتهن اسرهن واستغنت عنهن .
السيدة نجاة
ابتسامة صافية ارتسمت على الوجه الشاحب المتسخ الذى تبدو عليه قسوة الزمن ومرارة التجربة، شعرت نجاة لأول مرة بدفء الأسرة من جديد وتأكدت أن لها من اسمها نصيبا "نجاة نجت من حياة الشارع".
اختفت السيدة عن أنظارنا هى ونجلها، وبعد دقائق ظهر فتى يرتدى طاقم رياضى أسود اللون اتضح انه طفلها لقد تغير مظهره تماما، وسيدة ترتدى جلباب بنفسجى تبين أنها "نجاة" كانت قد ذهبت لتستحم وكأنها تريد أن تتخلص من الآثار السلبية التى تركتها الحياة على جسدها.
تركنا "نجاة" وذهبنا بعدما اندمجت مع صديقاتها نزيلات الدار وشاركتهن وصلة رقص أدتها بروح مرحة محبة للحياة ومقبلة عليها .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة