استقل المفكر عبدالرحمن الكواكبى الباخرة من بيروت إلى الإسكندرية، مصطحبا معه ابنه «كاظم».. كان فى الطريق إلى مصر بعد أن اتخذ قرارا بالهجرة إليها، لكنه تكتم الخبر حتى عن أقرب المقربين، وعن أخلص أصدقائه، حسبما يذكر الدكتور محمد عبدالرحمن برج فى كتابه «عبدالرحمن الكواكبى» عن سلسلة «أعلام العرب».
ينقل «برج» عن «كامل الغزى» صديق «الكواكبى» من مقال له فى مجلة «الحديث، العدد السادس، 1929»، أنه ذهب إليه لتوديعه زاعما أنه مسافر إلى استنابول، وكنت عالما بكتابه «جمعية أم القرى» وشعرت منه العزم على طبعه، فوقع فى نفسى أنه سيعرج على مصر لطبعه ونشره، إذ لا يمكن أن يطبعه فى غيرها، وحذرته من ذلك، وقلت له: إياك يا أخى والسفر إلى مصر، فإنك متى دخلتها تعذر عليك الرجوع إلى وطنك لأنك تعد فى الحال من الطائفة المعروفة باسم «جون تارك» أى الطائفة المتعاونة مع الإنجليز من الأتراك، لا يتأخر وسمك بهذه السمة قيد لحظة، لما اشتهرت به وعرفت به من شدة المعارضة وانتقاد الأحوال الحاضرة، فقال «أى الكواكبى» لم أعزم إلا على السفر إلى استنابول للعرض الذى ذكرته لك، ثم ودعنى ومضى.
شغل فى حلب قبل سفره وظائف رفيعة عديدة كان خلالها، وفقا لما يذكره «برج»: «كان نزيها مخلصا كفئا يحرص على خدمة الناس أكثر مما يحرص على خدمة الرؤساء على حساب الشعب»، ونتيجة لذلك فإنه وحسب محمود عوض فى كتابه «أفكار ضد الرصاص»: «قضى عمره يصطدم بالاستبداد العثمانى ويصارعه، وفى كل مرة كان يكتشف أن المشكلة هى أسلوب فى الحكم، فى السياسة، إنه الاستبداد».
يذكر «عوض» أن «الكواكبى» بعد أن توصل إلى أن الاستبداد هو أصل الداء قرر التفرغ لدراسته، لبحث أسبابه ونتائجه وأساليبه، لكنه واجه مشكلة «أين ينشر ما يكتبه؟»، فهو يعيش فى بلاد يختنق فيها كل صريح، ويتهم كل نزيه، ويعذب كل حر، ومن هنا قرر الهجرة إلى مصر لأنها أكثر صبرا وأكثر احتمالا، ويستطيع النشر فيها.
يلقى «برج» الضوء على الحالة التى كانت عليها مصر وقتئذ، قائلا: «كانت مصر ملتقى مهما لدعوة التحرر وزعماء الفكر الحر الذين ضاقت بهم بلادهم فى عهد السلطان العثمانى عبدالحميد الثانى، وأمام ظلم وفساد الحكم العثمانى بدأت هجرة السوريين واللبنانيين، وكان من الطبيعى أن تكون مصر هى المهجر القريب الذى تطلعت إليه قلوب الشاميين.. كانت مصر تحت حكم عباس حلمى الثانى من عام 1892، وراودته آمال عريضة كشاب يئن، يؤكد انفصال مصر عن تركيا، ومن هذا أصبحت مصر مجالا لنشاط الأحرار الذين فروا من وجه السلطان عبدالحميد، فجاء إليها من سوريا إبراهيم اليازجى، وكان أول صوت انبعث بالقومية العربية فى الشام، وفى مصر أسهم بنصيب وافر فى ميدان الصحافة وتوفى على أرضها عام 1906، وجاء بعده رفيق العظم عام 1894، وجاء شكيب أرسلان عام 1890، وكان بين العشرين والواحد وعشرين، ليلحق بأستاذه محمد عبده الذى كان حوله أسماء أبرزها سعد زغلول والشيخ على يوسف».
يضيف «برج»: «كذلك ظهرت فى مصر طبقة من الصحفيين الممتازين على رأسهم الشيخ على يوسف، صاحب جريدة المؤيد التى أفسحت صفحاتها لمقالات الكواكبى، وحفل ميدان الأدب بطائفة من فحول الشعراء منهم محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم».. يذكر «برج»: «تلك كانت حالة مصر يوم وصل إليها «الكواكبى» فى 15 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1898».. يؤكد: «لم تمض على مبارحة الكواكبى حلب بضعة عشر يوما، إلا وعرف الناس بوجوده فى مصر، وأخذت جريدة المؤيد تنشر له كتابه «طبائع الاستبداد» متفرقة بعنوان «الرحالة كاف».
يقول كامل الغزى: «أخذت جريدة المؤيد تنشر له تفرقة كتاب «طبائع الاستبداد» الذى لم يطلعنا عليه مطلقا بخلاف كتاب «جمعية أم القرى» فقد أطلعنا عليه مرارا، ثم أنه طبع الكتابين المذكورين وقام لهما فى «المابين» السلطانى «المكان الذى يقضى فيه السلطان العثمانى وقته» ضجة عظيمة، وصدرت إرادة السلطان بمنع دخولهما إلى الممالك العثمانية».
عاش الكواكبى فى مصر حتى مات يوم 14 يونيو 1902، يذكر برج: «اجتمع مع أصدقائه كالمعتاد فى مقهى يلدز قرب حديقة الأزبكية، وشرب القهوة كالمعتاد، وأحس بعدها بألم فى أمعائه فقام ابنه كاظم بنقله إلى منزله، حيث أصابته نوبة قلبية توفى على إثرها وعمره 50 عاما، وشاع أنه مات مسموما وأن السلطان عبدالحميد هو الذى دبر له ذلك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة