منذ اللحظة الأولى، صدور أول نبضة مداعبة أضلعك، انتشار الدم لكل خلية داخل جسدك، احتكاك جلدك بالهواء الخارجى، اهتزاز ذاك السائل داخل أذنيك مُعلنا قدوم أول صوت، دخول أول شهيق إلى رئتيك، ارتفاع جفونك لأعلى إيذانا بأول نظرة، سقوط أول قطرة دمع على خدَّيك، ارتجاف أحبالك الصوتيه للنطق بأول كلمة، القوة التى شبَّت فى قدميك لكى تخطو أول خطوة، أول إشارة عصبية تُثيرك لفهم ما يجرى حولك، فى اللحظة الأولى حدث كل شىء بتلقائية تامة دون تدخّل فكرى منك.
فالنبضة التى نشبت فى صدرك إنما صدرت كاملة، اتَّخذت القرار جُملة واحدة كى تضخ الدماء فى عروقك لتحيا، فماذا لو أن صدورها إنتصف ؟! وذاك السائل داخل أذنيك إنما اهتز بقوة ليُخبرك بشىء ما يُقال خارجك لكى يُترجم فيك، فماذا لو أن اهتزازه انتصف ؟! وبضعة الهواء الذى انطلق عُنوة إلى رئتيك، إنما انطلق بقوة ليفتح لك حويصلاتك الهوائية لتتنفَّس بالقدر الكافى، فماذا لو أن قوته انتصفت ؟! ارتفاع جفونك لأعلى جاء بانقباض تام لتلك العضلة الساكنة فيهما، فماذا لو أن انقباضها انتصف ؟! وماذا عن تلك الأحبال الصوتية ؟! ماذا لو انتصفت قوة ارتجافها ؟! وماذا لو انتصفت قوة قدميك بأول خطوة ؟! ماذا لو أن أول إشارة عصبية انتصفت إثارتها ؟! ماذا لو أن كل شئ اتخذ المنتصف مأمنا وعُرفا لمُجرَّد وجوده فى المنتصف ؟! ماذا لو ..
أُحدثك فى هذه السطور عن قصة ميزان وهنا لست أقصد ميزان مادى يكيل لك سلعتك لتعرف ثمنها إنما أحدثك عن ميزانك أنت، هذا الميزان لطالما أزعجته كثيرا بأمورك، فهو لا يملك سوى ثلاثة احتمالات فقط لا رابع لهم، إمَّا أن تتفوَّق كفَّتُه اليمنى أو تتفوَّق كفَّتُه اليسرى أو يتساويا فى المُنتصف فهو يُعطيك الناتج على قدر المعطيات التى أعطيتها إيَّاه فلا دخل له به، إذاً لماذا تنزعج من قراراته التى يُمليها عليك بكل مرة تلجأ فيها إليه؟! تدور أحداث هذه القصة بداخلك تكرارا ومرارا لذا دعنا إذاً نرى المشاهد سويَّا.
فى المشهد الأول - حيث تفوُّق الكفَّة اليُمنى - ترى استقراراً، فتُعجبك هذه الكفَّة كثيرا لأنها هادئة جميلة ومُطمئنة لا صخب فيها وكأنها موجة بحر عبرت دون جلبة مُسالمه ولكن لم يَلحظ وجودها أحد، تمر عليها الأيام أحيانا رتيبة بذاك الروتين اليومى المُعاد بدعوى سيرها بجوار حائط على أطراف أقدام وتكتفى بقليل العيش خوفا من المُخاطره بين أمواج الحياة الثائرة.
أمَّا إذا انتقلنا للمشهد الثانى - حيث تفوُّق الكفَّة اليُسرى - ترى جسرا على مشارف السقوط وفى الضفة المقابله انقلاب الأمور رأساً على عقب، تنظر إليها من بعيد خائفا مُتسائلا هل انقلابها خير أم شر؟! سعادة أم شقاء؟! هل تستحق عناء العبور أم لا؟! تظل الأمور مُعلَّقة هكذا وتظل عقارب الساعة تلتهم عُمرك ولازلت تُفكِّر فى جدوى المخاطرة فى عبور ذاك الجسر أم لا.
وحينما نأتى للمشهد الثالث - حيث تفوُّق المنتصف - ترى فريسة رمادية اللون فى البقاع وعلى جانبها الأيمن يُوجد مخبأها الذى يتوارى فى باطن الأرض وعلى جانبها الأيسر تقع غابة الذئاب التى تشن الهجوم فى البقاع بين حين وحين بحثا عن فريستها، فتظل بين مهابتين ورجاء، مهابة جانبها الأيسر لكى لا يُفتك بها فتترقَّبه خائفة وتلجأ سريعا إلى مخبأها، ومهابة جانبها الأيمن لكى لا يَفتكها الظلام فتتركه بين وقت وآخر، ورجاء عدم وقوعها فريسة لأى منهما، فتبقى عالقة هنالك بطبيعة الحال.
أرى الآن انعكاس ذاك الميزان فى مُقلتيك، أجل فهو الذى تلجأ إليه دائما لتوازن بين أمورك كافة، لكن دعنا نضع لكل مشهد عنوانا مناسبا لكى نُدرك ماذا جرى، ففى المشهد الأول نتحدِّث عن البقاء فى المنطقة الآمنة الخضراء من شتى الأمور لذا يُمكننا أن نضعها تحت عنوان "إيثار العافية"، أما فى المشهد الثانى تحدَّثنا عن الانطلاق للمنطقة الحمراء الخَطِره فيُمكننا أن نضع لها عنوان "المُغامرة"، أما فى ثالث المشاهد انتقلنا إلى المنطقه الرمادية الضبابية الأفكار وهذه تُسمى "المُنتصف المميت"، أرى الآن أيضا أن مشاهدك قد لاحت أمام ناظريك، وأرى أيضا أنك أمعت النظر فيهم، لذا أطلب منك أن تُعيرنى انتباهك ثانيةً لبضعة دقائق أخرى علَّنا نجد سبيلاً للنجاة.
كثيرا ما نقع فريسة بين فكَّى الاختيار بين أمور عِدَّة ولا ندرِ كيف السبيل إلى النجاة للاختيار الأمثل، فاعلم يا عزيزى أن الاختيار قائم على كيفية مجرى الأمور على ساحتك، فالمنطقة الخضراء ليست سيئة ولكنها تمتاز بالحكمة والتروِّى فى الأمور ولكنها أيضا تودى بك إلى حياة روتينية بأفق محدود بدون أية إثارة أو تَعَلُّم ما هو جديد فى الحياة. أما المنطقة الحمراء فهى خَطِرة بالقدر الكافى لابتعادك عنها بدعوى العيش فى سلام ولكنها أيضا كثيرا ما تستحق عناء الوصول إليها فقد تجد هنالك آفاقا عديدة تُضاف إلى التى تسكنك. أما المنطقة الرمادية فهى كما عنونتها بمنتصف مميت لا حياة فيه تنفيك إلى مُعتقل الاختيار طيلة عمرك دون جدوى الوصول إلى أى منهم ويمكن أن تصل لحافة الجنون ولازلت تُفكِّر أهذا أم هذا أم هذا أم .. ؟!
يجب عليك أيضا معرفة أن ميزان أمورك وأفكارك ملكك وحدك فقط وأنك الوحيد القادر على إعطائه المُعطيات اللازمه التى تراها ملائمة لك، إذاً وجب عليك أن تمنع أى أحد آخر من إملاء الأوامر عليه دون إذن منك.
وفى الختام أقول لك: يُمكنك أن تظل فى الجانب الأيمن قليلا إذا تفوَّقت كفَّته بقوة فحينها تكون المخاطرة دربٌ من جنون، لكن احذر أن تبقى هنالك طيلة عُمرك خائفا فإذا أحسست أنها تفوَّقت بقدر ضئيل فلا بأس بقليل من المخاطرة للجانب الأيسر فإذا لم تصل لمُرادك فستقوى وتتعلَّم أكثر فى رحلتك حتى تدرك كيفية إدخال المعطيات جيدا فى المرة المُقبله فما الشدائد إلَّا لتقوى وليشتد عودك. أما المنتصف يابنى فقاتل هو وأنت إن اتخذته خليلا فمقتول لا محالة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة