علق الرئيس جمال عبد الناصر على ما استمع إليه من مدير مكتبه سامى شرف، يوم 16 أغسطس– مثل هذا اليوم- 1970، حول قلق السفير السورى فى القاهرة، المثقف والمترجم الكبير سامى الدروبى من المهمة التى طلبها الرئيس منه وهى عقد عدة جلسات مع الرئيس، ليكشف له الأسرار والمواقف العامة والخاصة بثورة 23 يوليو 1952 ومسيرتها منذ أن قامت وحتى وقت لقائهما.. راجع، «ذات يوم 14 و15 أغسطس 2019».
يكشف سامى شرف تعليق الرئيس على ماسمعه منه عن قلق الدروبي..يقول فى الجزء الثالث من مذكراته: «هو فاكر إن تحمل المسؤولية ومصير أمة شىء هين أو بسيط أو يتقرر بالكلام بس؟..التعامل مع البشر لا يحتاج إلى زراير تدوس عليها فى ماكينات لتعطيك حاصل ضرب أو عملية طرح أوقسمة أوجمع، التعامل مع البشر عملية غاية فى الصعوبة والتعقيد لأنك لن تستطيع أن ترضى كل الناس طول الوقت، ولن تستطيع أن تحقق رغباتهم وطموحاتهم كلها مرة واحدة.. أنت فاكر كلام ديجول فى إحدى خطبه لما قال إن حاكم لهذا البلد لن يستطيع أن يرضى شعبا يأكل مائة وخمسين نوعا من الجبن.. ثم إن الكمال لله وحده، ولن تستطيع قوة بشرية أن تعدل كل العدل، أو تهيئ للمجتمع كله ما يريد ويحلم به، لا بد أن تحدث أخطاء، ولكن لا بد أن نمر بمراحل التجربة والخطأ إذا أردنا أن نتقدم، وإلا سنصاب بالجمود ونقف محلنا فى الوقت الذى يتقدم فيه العالم كل يوم خطوات وخطوات.. شوف الصين بدأت تجربتها سنة 1949 والنهاردة وصلوا لإيه، إنهم يقومون بإنتاج الإبرة والصاروخ وشوف عملوا إيه فى الزراعة.. شوف عملوا إيه فى القضاء على العصافير اللى كانت تأكل القمح عندهم ولا الذباب وغيرها، ويضعون أنفسهم على أول الطريق ثم يتقدمون ولا يتجمدون وإلا ضاعوا فى زحام طفرة التقدم التى يلهث العالم كله جريا وراءها للحفاظ على بقائه».
اختتم الرئيس كلامه لسامى شرف قائلا: «نهايته.. تجيب لى سامى الدروبى النهاردة الساعة 11 صباحا».. يذكر «شرف»، أن الرئيس بعد أن طلب منه المجئ بالدروبى الساعة 11 صباحا، استفسر منه عن أخبار الداخل والخارج، فعرض عليه موجزا سريعا للموقف على جبهة القتال وأهم الأخبار العالمية والداخلية..ويضيف: «فى تمام الساعة الحادية عشرة دخلت أنا وسامى الدروبى استراحة المعمورة، وقدته إلى المكان الذى يفضل الرئيس أن يجلس فيه فى هذا الوقت من النهار».
يتذكر «شرف»: «بعد تقديم المرطبات والقهوة سمعت صوت الرئيس نازلا على الدرج العلوى من الدور العلوى إلى الصالة، فنبهت الأخ سامى بإيماءة من رأسى بأن الرئيس فى طريقه إلى حيث نحن نجلس، وأقبل الرئيس بقامته المرفوعة مرتديًا قميصًا أبيض اللون بنصف كم وبنطلون رمادى، وصندل من الجلد البنى..دخل علينا مبتسما محييا، قائلا: «صباح الخير.. أنتم قاعدين فى المكان المضبوط والظاهر إنكم جايين مستعدين ومذاكرين كويس».. وضحك وضحكنا كلنا».
رد سامى الدروبى، ووفقا لشرف قال: «سيادة الرئيس.. أنا بكرر الشكر باسمى وبالنيابة عن حرمى على حُسن وكرم الضيافة والترتيبات الكاملة والإمكانيات الموضوعة تحت تصرفنا، وهذا الشىء كتير كتير قد لانستاهله.. وتعبنا الأخ سامى شرف معنا، لكنه معتاد على كده كما نعلمه عنه «وضحك..».. يتذكر شرف: «ضحك الرئيس، ونظر إلىّ نظرة رضاء، فهمت معناها من لمعان عينيه، وبدأ فى إعادة سرد رؤوس المواضيع التى سيتناولها النقاش بنفس الترتيب، ويكاد بنفس الألفاظ التى سبق أن عرضها فى الجلسة السابقة «14 أغسطس 1970»، وقال لنبدأ بالنقطة الأولى.. ثورة 23 يوليو 1952.. لماذا؟. كيف؟. أين نحن الآن؟.إلى أين؟.
طرح عبد الناصر هذا السؤال ثم أجاب، وقال فى إجابته: «كان لابد من إحداث تغيير جذرى فى الخريطة الاجتماعية لمصر التى كانت قد وصلت إلى أقصى انحدار لها سنة 1952، نتيجة لكون القضية الأساسية فى إحداث التغيير تتبلور حول قضايا عامة أساسية لدوافع وطنية بالدرجة الأولى، وإلا لما تمكنا من الوصول إلى إجماع حول القرار، وبالتالى إلى نجاح التنفيذ، ولو كنت طرحت منذ البداية قضية التحول الاجتماعى أو قضية الانتماء القومى العربى، لما قامت الثورة، وكان الجدل سيدور وسيستمر يمكن للآن، ولحدثت اختلافات ولما نجحنا».
أضاف عبدالناصر: «لكن القضايا التى كانت مطروحة أساسا هى: الملك وحاشيته.. الاستعمار الإنجليزى والوجود العسكرى الأجنبى على تراب الوطن.. الفساد.. الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم.. الأحزاب.. وهى كلها قضايا لا يختلف عليها اثنان لضرورة حسمها والقضاء عليها، مهما كانت الأفكار والميول والاتجاهات لأى مصرى وطنى.. وكان هذا هو عنصر الضمان فى القدرة على التحرك لتحقيق الأهداف».
واستمر كلام عبد الناصر لسامى الدروبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة