هناك علاقة ما بين إخفاء الوجه أو جزء منه وبين المواقف الحاسمة، وتقريبا كل الثقافات الإنسانية قد عرفت القناع بأشكاله المختلفة، فاليونان استخدموه فى بداية معرفتهم بفنون المسرح، وأفريقيا اعتبرته نوعا من التدين المحلى وطريقة الحياة، وأوروبا فى عصر النهضة ظنته نوعا من الوجاهة واكتساب الغموض، والحضارة العربية عرفته أيضا لكن بشكل أقرب إلى فكرة الملثم بما يتناسب والطبيعة الصحراوية التى بدأت منها هذه الحضارة قبل أن تنتشر وتتوسع وتتحول إلى إمبراطورية كبرى بفضل الدين الإسلامى. ومن أبرز الأشكال التى وثقها لنا تاريخ الملثمين:
الأسود العنسى.. يدعى النبوة من وراع قناع
الأسود العنسى "كذاب اليمن"، أول من ادعى النبوة فى الإسلام، وتذكر المصادر أنه من قبيلة مذحج فى اليمن واسمه عبهلة بن كعب العنسى من قبيلة عنس، ويكنى بذى الخمار، لأنه كان دائماً معتماً متخمراً بخمار رقيق ويلقيه على وجهه، ويهمهم فيه، ويعرف بالأسود العنسى لاسوداد فى وجهه.
وكان الأسود العنسى يقيم فى جنوب اليمن داخل كهف خُبَّانَ من بلاد مذحج، يرى الناس الأعاجيب بفنون من الحيل، ويستهوى الناس بعباراته، فتنبأ ولقب نفسه "رحمن اليمن"، وكان يدعى النبوة ولا ينكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحى وهما: سحيق وشقيق أو شريق.
قوى أمر الأسود العنسى بعدما انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدى وقيس بن مكشوح المرادى، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران وهو عامل المسلمين عليها، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مائة أو سبع مائة فارس معظمهم من بنى الحارث بن كعب وعنس. وظل الأسود العنسى مدعيًا النبوية مدة ثلاثة أشهر، وفى رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف فى قلوب اليمنيين، وبخاصة الأبناء.
وجاء مقتله بمساعدة امرأة شهر بن باذان، التى تزوجها الأسود العنسى قهرًا وهى امرأة صالحة وذات دين، فراسلها ابن عمها فيروز الديلمى سرًّا لتعاونهم على قتل الأسود العنسى، فوافقت وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلل القواد الأربعة (فيروز الديلمى وداذويه وجُشَيش وقيس بن مكشوح) إلى قصر الأسود العنسى فى الليلة المتفق عليها، فقتلوه.
خولة بنت الأزور.. فارسة من زمن الخلفاء الراشدين
تأتى مكانة خولة بنت الأزور من دورها فى واقعة أجنادين، وفيها التحم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد بالروم بقيادة هرقل، فقد فاقت ببسالتها وشهامتها ما قام به الرجال، وحاربت مستخفية لإطلاق سراح أخيها ضرار من الأسر، وحضت النساء على خوض غمار الحرب دفاعا عن الأسرى.
وقد وقعت خولة بنت الأزور فى الأسر هى وبعض النساء أثناء حرب المسلمين مع الروم، فحرضت النساء على التخلص من الأسر، ولما لم يكن معهن سلاح اقتلعن أعمدة الخيام وأوتادها وحاربن بها .
ويقال إن هذه البطلة المحاربة أسر أخوها ضرار بن الأزور فى الحرب، فتنكرت فى زى فارس، وامتطت جوادها مدججة بالسلاح واخترقت الصفوف وقتلت منهم عددا كبيرا.
توفيت خولة بنت الأزور فى عهد خلافة عثمان بن عفان - رضى الله عنه - بعد أن شهدت كثيرا من المشاهد والأحداث التاريخية.
الحجاج بن يوسف الثقفى وأهل العراق
بقى الحجاج بن يوسف الثقفى واليا على الحجاز حتى سنة 75 هجرية حتى أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بتوليه العراق بعد وفاة وإليها بشر بن مروان، وكانت الفتن المتلاحقة (حركة التوابين، حركة المختار بت أبى عبيد الله الثقفى، حركات الخوارج) قد مزقت أوصال العراق فلم يجد عبد الملك من هو أقدر على إحلال الأمن والنظام من الحجاج.
وحسبما يقول كتاب "الحجاج بن يوسف الثقفى.. طاغية العرب" لـ الحسينى معدى، فقد خرج الحجاج من المدينة فى اثنى عشر راكبا على النجائب ووصل الكوفة فى رابعة النهار، فتوجه إلى المسجد، وصعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، وجلس على المنبر صامتا، فأطال الصمت مما شق على الناس، فتناول أحدهم حصى وأراد أن يحصبه وقال: قاتله الله ما أعياه، ويبدو أن الحجاج كان ينتظر حدوث ذلك، فهب واقفا وحسر عن وجهه وانطلق بخطبته المشهورة التى مطلعها:
انا ابن جل وطلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفونى
الملثم الخراسانى.. هاشم بن حكيم الفارسى
اسمه هاشم بن حكيم كان رجلا دميما، قام بإخفاء وجهه وراء قناع من الذهب، ووضع قطعا من الحرير الأخضر مكان العينين فى القناع، وادعى الألوهية وقال بتناسخ الأرواح، واجتمع إليه عدد كثير من الناس كانوا يسجدون له، وجمع المقنع بين عقائد المزدية التى كان ينتمى إليها أول أمره، إذ أباح لأتباعه الحرمات وأسقط عنهم الفرائض وسائر العبادات.
ويذكر كتاب "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ج3 ص 230" أن اسمه عطاء، ولا يعرف اسم أبيه، وقيل اسمه: حكيم، والأول أشهر، وكان فى بداية الأمر قصارا من أهل مرو، وكان يعرف شيئا من السحر، فادعى الربوبية من طريق المناسخة، فكان يقول لأشياعه الذين اتبعوه "إن الله سبحانه وتعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك قال للملائكة اسجدوا له إلا إبليس، فاستحق بذلك السخط، ثم تحول آدم إلى صورة نوح، عليه السلام، ثم إلى صور الأنبياء واحدا تلو الآخر، والحكماء حتى حصل فى صورة أبى مسلم الخراسانى".
ثم زعم أنه انتقل إليه منه، فقبل قوم دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه، مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته، لأنه كان مشوه الخلق، أعور ألكن، قصيرا، وكان لا يسفر عن وجهه، بل اتخذ وجها من ذهب فتقنع به، فلذلك قيل له "المقنع" وإنما غلب على عقولهم بالتمويهات التى أظهرها لهم بالسحر، وكان فى جملة ما أظهر لهم صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين، موضعه لا يغيب، فعظم اعتقادهم فيه، وقد ذكر أبو العلاء المعرى هذا القمر فى قوله: "أفق إنما البدر المقنع رأسه – ضلال وغى مثل بدر المقنع"، وهذا البيت من جملة قصيدة طويلة، وإليه أشار أيضا أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك الشاعر، فى جملة قصيدة طويله بقوله: "إليك فما بدر المقنع طالعا – بأسحر من ألحاظ بدر المعمم".
ولما اشتهر أمر المقنع وانتشر ذكره ثار عليه الناس، وقصدوه فى قلعته التى كان اعتصم بها وحاصروه، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات، ودخل المسلمون قلعته وقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه فى سنة 163 هجرية، ويذكر الكتاب أيضا أن القلعة سالفة الذكر لم تذكر إلا فى كتاب "الشبهات" لياقوت الحموى، وهو مكان لقلعة فى بلاد ما وراء النهر، يعتقد أن المقنع عمرها.
السيد البدوى.. لثام فى الشتاء وآخر فى الصيف
من أشهر رجال التصوف فى مصر السيد أحمد البدوى، واسمه أحمد بن على بن يحيى ولد فى فاس 596 هـ/1199 م – ومات فى طنطا 675 هـ/1276 م) إمام صوفى سنى عربى، وثالث أقطاب الولاية الأربعة لدى المتصوفين، وإليه تنسب الطريقة البدوية ذات الراية الحمراء. لُقب بالبدوى لأنه كان دائم تغطية وجهه باللثام مثل أهل البادية، وله الكثير من الألقاب، أشهرها شيخ العرب والسطوحى.
أما بالنسبة للقب "البدوى" الذى اشتهر به، فسمى بذلك لأنه كان يشبه أهل البادية فى ملازمة اللثام. وسمّى "الملثم" أيضاً لأنه كان يغطى وجهه بلثامين صيفاً وشتاءً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة