لسنوات طويلة، تجاوزت كتابات القمص متى المسكين مؤسس التيار الآبائى حواجز دير الأنبا مقار بوادى النطرون لتحلق نحو المعاهد اللاهوتية العالمية، وتنتقل من يد إلى يد لكل باحثى ودارسى اللاهوت الأرثوذكسي دون أن تشكل تلك الحالة المعرفية الفريدة أية دعوة للفت نظر عموم الأقباط حول كتابات المفكر الأهم فى تاريخ الكنيسة المعاصر إذ ظلت كتاباته وأفكاره رائجة بين طبقة من المثقفين المتعلمين وبين الشباب القبطى اللاهث للمعرفة، حتى إذا ما جاء العام الماضى 2018 الذى شهد مقتل الأنبا ابيفانيوس تلميذ القمص متى المسكين خلف جدران ديره بوادى النطرون فتعود سيرة الأب الباحث للألسنة مرة أخرى وتملأ أفكاره أوراق الصحف وفضاءات الانترنت بحثا وتنقيبا عن تلك المدرسة اللاهوتية التى سافر مؤسسها للسماء وظلت أفكاره تضايق المتشددين على الأرض فيكفرونه حيًا وميتًا.
كيف جاءت الذكرى الـ13 لوفاة المسكين مختلفة عن باقى السنوات؟
فى هذا العام، تحل الذكرى الـ13 لوفاة القمص متى المسكين، إذ صلى رهبان دير الأنبا مقار قداس ذكرى وفاته بحضور عدد غير قليل من شباب الباحثين الذين أحبوا كتاباته واعتبروها منارة وسط عتمة سيطرة الفكرة الواحدة طوال العصر الفائت بعدما تسبب الخلاف بينه وبين البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية الـ117 فى منع كتبه من مكتبات الكنائس وحصارها إينما حلت حتى أن الأنبا بيشوى مطران كفر الشيخ الراحل الذى عرف بتصديه لأفكار المسكين ووصفها بالهرطقة علنًا، قد عرف عنه حرق كتب المسكين علانية فى أحد كنائس دمياط الواقعة تحت إشرافه وقتما كان الرجل الثانى فى كنيسة البابا شنودة التى حكمت العقل القبطى 40 عامًا كان البابا الراحل فيها مصدرًا للأفكار واللاهوت وتفاسير الانجيل والعقيدة ومن ثم فإن الإقصاء كان مصير كل من اختلف معه كالأب متى المسكين الذى فضل الابتعاد عن الأزمات مغلقا أبواب ديره على رهبانه، ليتحول الدير بعدها لساحة علم يتلقى الدارس فيها تعاليمه باللغات القديمة العبرية واليونانية لغات الانجيل الأولى ليصبح الراهب المقارى قادرًا بعدها على قراءة أمهات الكتب العقائدية بلغاتها الأصلية فينفتح له ما استغلق على غيره ممن فضلوا النقل على العقل ومن باعدوا بين النور والظلام عامدين.
القمص متى المسكين.. علامة الفكر اللاهوتى المعاصر
يشكل القمص متى المسكين علامة بارزة فى الفكر اللاهوتى إذ مكنته معرفته الهائلة باللغات القديمة من التعرف على أفكار آباء الكنيسة الأوائل ما قبل مرحلة الانقسام الذى عقد عام 451 م وانقسمت على إثره الكنائس لقسمين خلقدونية وغير خلقدونية إذ تسبب الخلاف حول عقيدة المسيح فى انقسام مازالت الكنائس تعيشه حتى اليوم، بينما رأى القمص متى المسكين أن فى تقارب الكنيسة القبطية مع الكنائس الأخرى ثراء لها يضيف إلى تاريخها الطويل الذى امتد لأكثر من ألفى عام كأحد أهم كنائس العالم المسيحى، وعلى النقيض كانت مدرسة البابا شنودة اللاهوتية ترفض محاولات التقارب تلك بل وتحرم من يجرؤ على ذلك من ممارسة الأسرار الكنسية المقدسة.
فى عام 2008، شرع البابا شنودة فقهًا جديدًا للزواج الأرثوذكسى واعتمد الأقباط عبارته "لا طلاق إلا لعلة الزنا" باعتبارها آية من الإنجيل وسبب وحيد للطلاق بينما كانت تفسير البابا الراحل لآية من الإنجيل، فلم يرى المسكين بدًا من معارضة الفكرة تلك بكتابه الشهير سر الزيجة المقدسة الذى اختلف فيه مع أفكار البابا شنودة حول الزواج الأرثوذكسي والانفصال جذريًا.
كيف ورث البابا تواضروس صراعا لا ناقة له فيه ولا جمل؟
كذلك، فإن كتاب الكنيسة والدولة الذى رأى المسكين فيه ضرورة فصل الدين عن السياسة لم يلق هوى البابا شنودة الذى دخل إلى معترك السياسة أو أدخل فيها عنوة بعد خلافه التاريخى مع الرئيس السادات والذى انتهى باعتقاله وتحديد إقامته بدير الأنبا بيشوى فى اعتقالات سبتمبر عام 1981، بينما تسبب لقاءً جمع الرئيس السادات بالقمص متى فى تلك الفترة إلى تفاقم الخلاف بين القطبين الكبيرين البابا شنودة ومتى المسكين وهو الصراع الذى لم ينته بوفاة كليهما.
صراع القطبين الكنسيين الكبير لم ينتهى بوفاة القمص متى المسكين عام 2006، إذ رأى البابا شنودة ضرورة إكمال تلك الحرب وذلك بمحاولة إخضاع دير الانبا مقار لسلطته واستمرت تلك الأزمات حتى وفاة البابا شنودة عام 2012، ليصل البابا تواضروس بعدها إلى سدة كرسى مارمرقس ويرث حربا لا ناقة له فيها ولا جمل ما زالت لم تضع أوزارها حتى اليوم بين مدرستين كنسيتين الأولى للبابا شنودة والثانية للقمص المسكين رجل العلم والأزمات معًا.
فى عام 2013، اختار البابا تواضروس الراهب ابيفانيوس المقارى رئيسا لدير الانبا مقار بوادى النطرون دون أن يعرف أن الرجل سوف يعيش على بحيرة من الأزمات سوف تنتهى بمقتله على يد رهبان الدير (إشعياء وفلتاؤس المقارى)، إذ تسببت سنوات الشقاق بين البابا شنودة والقمص متى فى انقسام الدير بين مدرستين رهبانيتين.
قبل ثلاثة سنوات من اليوم، وقف الانبا ابيفانيوس على منصة دير كاثوليكي شهير بإيطاليا قرر الاحتفاء بالذكرى العاشرة لوفاة المسكين، وقال فى كلمة نقلتها الصحف الإيطالية إنه من الصعب على غير الدارسين لتاريخ الكنيسة القبطية فى العصر الحديث أن يُدركوا مدى الأثر الذى تركه الأب متى المسكين في نظرة الأقباط للكنائس الأخرى، أو مدى تأثير الأب متى المسكين على الحياة الرهبانية، وحقل الدراسات الآبائية والإنجيلية في مصر.
قال الانبا ابيفانيوس فى أستاذه "فى النصف الأول من القرن العشرين، بَدَأَت فى مصر حركة مدارس الأحد التى كان يقودها الأرشيدياكون حبيب جرجس، الذى اعترفت الكنيسة القبطية بقداسته منذ ثلاثة أعوام، وكان كل ميراث هذه الحركة يتمثَّل فى كتابات جدلية وكتابية واردة من الكنائس الأخرى، ولم يكن هناك أية دراسات آبائية معروفة أو تفاسير للكتاب المقدس في يد القارئ القبطي باللغة العربية، سوى بعض الكتب المترجمة عن كُتَّاب من الكنائس البروتستانتية".
واعتبر الأنبا أبيفانيوس أن كتابات الأب متى المسكين أحدثت تغييراً ملحوظاً في مجال التعليم في الكنيسة القبطية مرجعًا السبب الحقيقي وراء هذا التغيير، إلى أنَّ الأب متى المسكين لم يتتلمذ على اللاهوت القبطي المعاصر أو المستحدث الذى كان منتشراً في ذلك الوقت؛ إذ أنه بتدبيرٍ إلهي، حسب تعبيره، حصل على مجموعة كاملة لأقوال الآباء مُترجمة إلى اللغة الإنجليزيـة، فقرأها بنهَمٍ. فانطبع فكر الآباء على تفكيره، واصطبغت حياته بسِيَر قدِّيسي الكنيسة. فخرجت كتاباته لها طعم كتابات آباء الكنيسة.
تلك الكلمة ازعجت أساقفة التيار التقليدي الذين رأوا فى الانبا ابيفانيوس امتدادا لمدرسة رهبانية لا تنطفئ بوفاة مؤسسها مهما حاولوا التأكيد على ابتعاد كتاباته عن الإيمان القويم بعدما ظنوا إنهم فقط يملكون مفاتيحه وهذا الطريق السحرى نحو ملكوت السموات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة