"الجنة تحت أقدام الأمهات" ليس من فراغ، لأن هناك سيدات حكمت عليهن الظروف بأن يواجهن مشقة الحياة بمفردهن بصحبة أطفالهن الصغار، دون مصدر للدخل يضمن لهن الأمان والحياة الكريمة رغم صغر أعمارهن وقتها قررن رفض فكرة الزواج بعدما أصبحن أرامل بوفاة أزواجهن وعملن بمهن شاقة بعضها لا يقدر عليه إلا الرجال ليكملن مسيرتهن، متناسيات أنفسهن فى سبيل تربية أبنائهن.
وأولى تلك الحالات هى حكمات عطية 65 سنة تقيم بقرية السنباط بمركز الفيوم لديها 3 بنات وولد وحيد، وتوفى زوجها وتركها وحيدة لا تملك من الدنيا شيئا، وكانت مسئوليتها كبيرة، خاصة أن زوجها كان عاملا باليومية ولم يترك لها شىء سوى غرفة بلا سقف معروشة بالقش، تعيش فيها مع أبنائها فبدأت التفكير فى تربية الطيور وبيعها للأهالى بقريتها وبالأسواق.
وقالت حكمات لـ"اليوم السابع"، كان علىّ أن أكمل المسيرة بعد زوجى، والآن رغم وصولى لعمر الخامسة والستين إلا أننى ما زلت أذهب للأسواق وأشترى الطيور الصغيرة وأذهب لأصحاب محلات بيع الأعلاف وأقوم بشراء الأعلاف وأحضر الحشائش من الأراضى الزراعية وأقوم بتربية الطيور وبيعها بعدما تكبر لتدر علىّ دخلا أتمكن به من زيارة بناتى المتزوجات وإعداد الطعام لهن عندما يأتين إلىّ وأن أكمل تربية ابنى الصغير وأتمكن من تزويجه مثل شقيقاته موضحة أن حلمها أن يتم بناء بيتها لتكون آمنة، وأن يتم توفير توك توك أو تروسيكل ليعمل عليه نجلها وينفق عليها.
أما فتحية فهى سيدة تخطت الستين من عمرها ولكنها لم تتخط عزيمة الشباب ملامح وجهها وجسدها قوية كابنة العشرين تشمر عن ساعديها وتستعد للعمل فى أى وقت تطلب فيه للحقول فتعمل بأعمال الرجال تنظف الحشائش من الأرض وتجنى المحاصيل وتقشر الذرة الشامية وتجنى القطن وتعبئ البصل فى أجولة وتحصد الحشائش بالمنجل لتطعم المواشى ورغم هذه القوة فى ملامحها إلا أن صوتها وهن ويبدو عليه إجهاد السنين ومرارة وشقاء الأيام.
وقالت "فتحية"، إنها تزوجت من أحد أقاربها منذ أكثر من 40 عاما وكانت حالته المادية ليست ميسورة وكان منزل الزوجية عبارة عن غرفة فى شارع جانبى بعزبة ريفية صغيرة وهذه الغرفة بلا مياه ولا كهرباء وبعدما أنجبت 3 أبناء فوجئت بزوجها يتزوج عليها ويتركها تربى أبناءها بمفردها وينتقل للعيش مع زوجته الجديدة، متابعة: أصبت بالصدمة لا أعلم كيف أتصرف ومن أين أربى أبنائى بكيت كثيرا وتألمت كثيرا ومرت على ليالى باردة لا أرى فيها النوم، ولكننى قررت أن أستعين بالله وأعتمد على ما رزقنى الله به من الصحة والعافية لأدبر ما يكفى من المال لشراء قوت أبنائى وأن لا أنتظر أن يشفق على أحد أو يذلنى أحد، وقريتنا ليست بها أى أعمال يدوية تناسب السيدات ولا يوجد بها سوى أعمال الرجال بالحقول، فقررت أن أستجمع قواى وعزيمتى وتكون هذه هى مهنتى التى أمتهنها فبدأت بالفعل العمل فى الأراضى الزراعية وأخبرت جميع أهالى قريتها أن من يحتاجها للقيام بأعمال فى الأرض الزراعية عليه بإخبارها وبدأ أهالى القرية يطلبونها للعمل خاصة بعدما أثبتت همتها العالية فى تحمل أعمال الرجال.
ولفتت "فتحية" إلى أن يومها كان يبدأ مع صلاة الفجر بمجرد انتهاء الإمام من الصلاة وخروج المصلين من المسجد الذى يبعد أمتار قليلة عن منزلها تبدأ فى الخروج إلى عملها وتذهب إلى الأرض المطلوب أن تعمل بها وتبدأ فى إنهاء العمل المكلفة به من قبل صاحب الأرض وتكن أحيانا بمفردها وفى أوقات أخرى يكن غيرها من السيدات والأطفال والعمال بالأرض إذا كانت مساحة الأرض كبيرة وتعمل حتى تصبح الشمس عمودية وحامية قبل صلاة الظهر وهنا ينتهى نصف يومها فى العمل فتعود لمنزلها بيدها خيرا من الأراضى الزراعية مما يجود به عليها صاحب الأرض أحيانا بعض الطماطم أو الجرجير أو أنواع الخضار الأخرى وتبدأ فى تحضير وجبة الغذاء لأبنائها والتى لا تضيف عليها كثيرا عن ما أحضرت من الأرض التى تعمل بها سوى الخبز وكانت تتناول الطعام هى وأبنائها وسط حالة من السعادة والرضا حامدين فضل الله أنهم وجدوا ما يطعمون به ثم تعود لإتمام عملها فى الأرض مع أذان العصر وتنتهى من عملها مع أذان المغرب لتكون بذلك أنهت يومها فى العمل وتتقاضى من صاحب الأرض أجر يومها.
وأضافت فتحية، أنها ادخرت من عملها ما مكنها من تزويج أبنائها الثلاثة ومازالت هى تقيم فى غرفتها التى تزوجت بها ومازالت تسعى وراء رزقها وتعمل بالأراضى الزراعية، وعن أمنياتها ابتسمت السيدة البسيطة وهى تنظر للأرض "نفسى فى الشتا ألاقى بطانية حلوة اتغطى بيها".
أما الست عطيات فتجدها تجلس يزيدها جلبابها وشالها الأسمر جمالا على جمالها وسط "عش" أو كما تسميها "خص" من "البوص" فى الأرض الزراعية، يداها مشققتين وفيهما إبرة وخيط من الصوف تغزل بهما طاقية وهى تميل رأسها التى تكاد تلمس يديها لتتمكن من الرؤية نظرة لإصابتها بمياه فى عينيها، وأمامها "بقرة" تراقبها حتى تنتهى من التهام ما أمامها من الحشائش تترك ما بيدها وتقوم وتمسك بالمنجل وتقطع لها الحشائش بعزيمة الرجال رغم رعشة يداها نظرا لكبر عمرها ثم تعاود الجلوس مرة أخرى واستكمال الطاقية الصوف التى تغزلها.
وقالت عطيات محمد أبو العطى إحدى سيدات قرية السنباط بمحافظة الفيوم، إن زوجها توفى منذ 25 عاما متأثرا بإصابته بمرض الكبد وترك لها 4 بنات وغرفة وحمام هما كل ميراثهم فى الدنيا، وكانت شابة جميلة، وقررت أن تكرث حياتها لتربية بناتها ولم يكن أمامها حل سوى العمل باليومية مثل الرجال بحقول أهالى القرية وكانت تعمل بكافة الأعمال وتعود فى نهاية اليوم بالطعام والشراب لبناتها وحينما وجدت أن هذا لا يكفى تعلمت صناعة الطواقى الصوف وتقوم بعمل الطاقية وبيعها لأحد سيدات القرية التى تبيعها بالأسواق مقابل 5 جنيهات للواحدة والتى قد تستغرق منها أسبوعا كاملا.
ولفتت الأم المكافحة إلى أنها تمكنت من تربية بناتها حتى تزوجن الأربعة ويعشن الآن فى بيوت أزواجهن وتعيش هى بمفردها تنتظر زيارتهن وتكافح لتكون مستعدة لهذه الزيارة فقام أحد الأهالى بالاتفاق معها على أن تربى بقرة له وترعاها مقابل أن تأخذ لبنها وتبيعه وتأخذ نصف ثمن مولودها كل عام وبالفعل تعتمد عطيات على هذا فى ادخار نقود تكفى لشراء الطعام والشراب لها وأن تقوم بواجب ضيافة بناتها عند زيارتهن لها وأن تستطيع أن تزورهن فى المواسم المختلفة وتحمل لهن "العشى" مثل باقى سيدات القرية، حيث إنه لابد أن تزور الأم ابنتها المتزوجة فى المناسبات حاملة لها اللحوم والمطبوخات وحتى لا تشعر أن بناتها ينقصهن شئ عن بنات قريتها.
وعن يومها أكدت عطيات أنه يبدأ قبل أذان الفجر تستيقظ وتصلى وتذكر الله حتى إشراق الشمس تصطحب بقرتها إلى الأرض الزراعية التى تقوم باستئجارها لإطعام البقرة وحتى تتمكن من الحصول على نسبة جيدة من اللبن منها وتجلس فى عشتها فى الحقل لاطعام البقرة عدة مرات خلال اليوم وتستغل وقت جلوسها فى عمل الطواقى الصوف ومع أذان الظهر تصطحب بقرتها خوفا من حرارة الشمس وتعود للمنزل وتتناول وجبة الغذاء والتى قد تكون قطعة من الجبن الفلاحى وقطعة خبز وقد توجد واحدة من الطماطم تتناولها مع الطعام أم لا وفقا لغلاء سعرها، ومع أذان العصر تصطحب بقرتها مرة أخرى للحقل وتعيد ما فعلته فى الصباح حتى أذان المغرب ثم تعود لمنزلها وتحلب بقرتها وتصلى العشاء وتنام.
وأشارت عطيات، إلى أن أبناء قريتها أخبروها عن معاش تكافل وكرامة وأمنيتها الوحيدة الحصول عليه وأن يتم علاج عينيها التى أصيبت فيها ولا تستطيع الرؤية إلا بالكاد وتتمنى أن تعرض على طبيب يعالجها وعمرة تطيب بها خاطرها بعد سنوات شقائها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة