دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر. وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم. وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
فى حياة الشعوب الأفريقية زعماء أثروا فى أبناء القارة السمراء، وكان له دور عظيم فى دعم قضايا التحرر والوحدة، وكان أبرزهم الرئيس الغانى الراحل كوامى نكروما الذى يعد أكثر الزعماء الأفارقة دعما للوحدة الأفريقية، وراوده حلم الوحدة بين الدول الأفريقية وجعلها ولايات أفريقية متحدة ذات حكومة واحدة وسعى إلى تحقيق ذلك.
نشأ الزعيم الأفريقى نكروما وسط أسرة بسيطة، حيث عمل والده حدادا، وأمه كانت تعمل فى التجارة، ولد الزعيم الأفريقى نكروما فى 18 سبتمبر 1909، فى قرية نكروفل أقصى الجنوب الغربى لساحل الذهب، غانا حاليا، وسمى بنكرو على اسم القرية وكان ميلاده يوم السبت فأطلق عليه اسم Kwame، طبقا للعادات الأفريقية التى تقضى أن يطلق على المولود اسم اليوم الذى ولد فيه، من هنا جاء اسم الزعيم الأفريقى كوامى نكروما.
أصر والده البسيط على توفير مناخ لحياة أفضل ووفر له نفقات دراسته، وبالفعل التحق نكروما بمدارس الإرساليات الكاثوليكية الرومانية لمدة ثمانى سنوات، وعرف عنه التفوق والتميز، وتخرج فى دار المعلمين بأكرا عام 1930، ثم قضى ستة أشهر مدرسًا فى مدرسة فى (هافأسينى) وفى عام 1926 توجه إلى العاصمة أكرا ليتدرب على التدريس فى كلية أميروبلز.
فى عام 1935 ذهب نكروما إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درس الاقتصاد والاجتماع فى جامعة لنكولن بجوار أكسفورد فى بنسلفانيا. وفى عام 1939 حصل على الليسانس من المعهد الذى تأسس عام 1854، وهو الأول فى الولايات المتحدة الذى يعطى تعليمًا عاليًا للزنوج. وفى عام 1942 تخرج كوامى نكروما فى كلية لنكولن الدينية، حيث حصل على الليسانس فى العلوم الدينية، وفى نفس العام حصل على ماجستير العلوم فى التعليم من جامعة بنسلفانيا.
وتزوج كوامى نكروما من المصرية فتحية حليم رزق فى ديسمبر 1957 وكانت طالبة فى جامعة القاهرة، وعاش الزوجان فى قلعة بأكرا التى بنيت منذ 300 عام فى أوسو كريستيان.
سعى الزعيم نكروما إلى تحقيق حلمه عندما دعا الدول الأفريقية المستقلة إلى اجتماع فى العاصمة الغانية أكرا عام 1958م، وشارك فى الاجتماع عدد من الدول الأفريقية منها مصر، إثيوبيا، ليبيا، السودان، تونس، للبحث فى آلية لاتحاد الدول الأفريقية، وبعدها بعدة أشهر احتضنت غانا مؤتمر شعوب أفريقيا.
وفى عام 1959 قام نكروما بتأسيس اتحاد بين كل من غانا وغينيا مع الرئيس الغينى أحمد سيكوتورى، وذلك لكى يكون هذا الاتحاد نقطة البداية لاتحاد أفريقى موسع يشمل الكثير من الدول الأفريقية الأخرى، لكن عددا من الدول الأفريقية فضل أن يكون هناك منظمة جامعة للدول الأفريقية، وبالفعل تأسست منظمة الوحدة الأفريقية فى الخامس والعشرين من مايو 1963م بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
نضال نكروما السياسى: شكل نكروما منظمة الطلاب الأفارقة فى أمريكا وكندا خلال عمله فى جامعة بنسلفانيا، وترأس نكروما المنظمة، وكانت هذه بداية نشاطه السياسى فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما بدأ يهتم بشكل واسع بالقضايا السياسية لغرب أفريقيا.
ظهرت روح ورغبة الحكم الذاتى فى ساحل الذهب خلال الحرب العالمية الثانية، وأسس الدكتور جوزيف دانكوا اتحاد ساحل الذهب المتحد فى 29 ديسمبر 1947 وهو أول حزب وطنى فى ساحل الذهب، ورشح دنكواه منصب الأمين العام للحزب إلى كوامى نكروما، وفى عام 1947 بعد غياب 12 عامًا عاد كوامى نكروما من إنجلترا إلى وطنه وساعد نكروما «دنكواه» فى بناء الحزب، ونظرًا لأنه كان متحدثا لبقا فقد نجح فى إقناع الشارع بالحزب حتى تم ترشيحه متحدثا رسميا باسم حزب ساحل الذهب المتحد.
ونتيجة للخلاف بين نكروما ودنكواه فى الطباع لدرجة يصعب معها التوافق بينهما، انفصل نكروما عن حزب ساحل الذهب المتحد فى يونيو 1949 وأسس حزبه الخاص الذى استمد تأييده من الشباب.
وفى عام 1948 مُنع من دخول المناطق الشمالية بعد سلسلة من الاضطرابات حدثت فى شهر فبراير وراح ضحيتها اثنا عشر شخصا واتهم نكروما بأنه متآمر شيوعى، وقد أعلن هو بنفسه أنه يقف ضد العمل الإيجابى، كما أوضح أن العمل الإيجابى يعنى انتهاج كل الوسائل المشروعة والدستورية التى تمكن الشعب من مهاجمة كل قوى استعمار فى الدولة، وكانت الأسلحة المشروعة فى نظره هى التثقيف الشعبى السياسى والصحف والحملات التعليمية، وأخيرًا تنظيم المظاهرات والمقاطعة وعدم العنف، مقتديًا بما فعله غاندى بالهند.
وفى منتصف عام 1949 أسس نكروما حزب المؤتمر الشعبى لتحقيق الحكم الذاتى للبلاد، وفى أوائل 1950 اعتقل نكروما مجددًا بعد سلسلة من الإضرابات، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وفاز حزبه بالانتخابات البلدية والعامة فى الانتخابات، وفاز وهو بالسجن بدائرة أكرا وبأكثرية كاسحة، فأطلق سراحه وتولى رئاسة الوزراء فى مارس 1952.
وفى مارس 1958 زار نكروما 11 دولة أفريقية من أجل تعزيز التعاون المشترك خاصة مع دول جنوب الصحراء، وذلك قبل شهر من عقد مؤتمر للرؤساء الأفارقة المستقلين وتبع ذلك رحلة إلى الولايات المتحدة، وفى ديسمبر 1958 افتتح نكروما أول مؤتمر لكل الشعوب الأفريقية «أكرا»، وتبعه مؤتمرات مماثلة.
وأثناء مؤتمر أكرا أعلن الاتحاد مع غينيا التى صوتت ضد الارتباط بالجماعة الفرنسية الأفريقية فى سبتمبر 1958، وقال نكروما إن اتحاد الدول الأفريقية المستقلة مفتوح لأى دولة مستقلة ترغب فى ذلك.
نكروما.. رئيس جمهورية غانا بعد الاستقلال.. فى مارس 1960 قررت غانا أن تصبح جمهورية مستقلة فى الأول من يوليو من العام نفسه، ولكن تظل عضوًا فى الكومنولث، طلب من الناخبين التصويت على مسودة دستور جديد واختيار الرئيس لفترة ثانية، واحتوى الدستور الجديد على رئيس دولة يكون المسؤول عن السلطة التنفيذية وينتخب رئيسًا مسؤولا عن الشعب، وله الرئاسة على القوات المسلحة، والخدمة المدنية تكون فى يده، يصبح البرلمان مجلسًا تشريعيًا ذا سيادة، ويتكون من الرئيس والمجلس الوطنى، ومن حق الرئيس التصويت على التشريع وحل البرلمان.
وصوت الشعب الغانى على انتخاب الرئيس عندما تكون هناك انتخابات عامة بشكل يضمن أن يكون تلقائيًا، وزعيم الحزب هو الذى يحقق نصرًا فى الانتخابات العامة، والتصويت على نظام الحكم والقضاء، وتصبح غانا جمهورية موحدة ذات سيادة، ولها حق التنازل عن أى جزء من سيادتها لصالح اتحاد الدول الأفريقية.
نظام الحكم: كان يهدف نكروما إلى إيجاد دولة موحدة ذات حكومة مركزية قوية، لأن أهم ما تحتاجه إليه الدولة الناشئة هو تنمية الوعى القومى وهو ما تعرقله النزاعات والصراعات الإقليمية الاشتراكية.
الانقلاب والوفاة: واجه نكروما عددا من المعارضين لأفكاره وتوجهاته فى رئاسة البلاد، فقام الجيش بانقلاب واستولى على السلطة عندما كان نكروما فى زيارة لفيتنام، فأطاح به الجيش الغانى فى عام 1966م، لجأ نكروما إلى غينيا، وقابله رئيسها أحمد سيكوتورى باستقباله بالحفاوة والترحيب حتى أنه قام بإعطائه منصب رئيس الجمهورية فخريا، ومن غينيا بدأ سيكوتورتى يحفز الشعب الغانى من أجل الانقلاب على النظام العسكرى والمطالبة بعودة نكروما للحكم مرة أخرى.
وبالفعل مرت غانا بعد ذلك بمرحلة من التدهور وعدم الاستقرار، وجاءت المطالبات بعودة نكروما مرة أخرى إلى سدة الحكم، وذلك نظرًا لإنجازاته العديدة التى قام بها فى البلاد أثناء فترة حكمه لها، لكن القدر لم يمهله كثيرًا لكى يسترد حكمه مرة أخرى، فلقد سيطر عليه المرض وتوفى فى رومانيا فى 27 إبريل عام 1972م ودفن أولاً فى غينيا، ثم تم نقل جثمانه ليدفن بموطنه غانا.
قام نكروما بكتابة عدد من المؤلفات منها: أتكلم عن الحرية، يجب أن تتحد أفريقيا، الاستعمار الجديد، تحدى الكونغو، وفى كتاب آخر بعنوان «غانا» قام بتناول سيرته الذاتية.
ويعد الزعيم الغانى كوامى نكروما من المناضلين الأفارقة الأوائل ضد الاستعمار، وكان أول رئيس لغانا المستقلة ورئيس الوزراء الأول، وأبرز دعاة الوحدة الأفريقية، وواحدا من مؤسسى منظمة الوحدة الأفريقية قبل إسدال الستار عليها فى يوليو 2002 .
الأحزاب التى تتبع فكر نكروما
حزب مؤتمر الشعب: أنشئ هذا الحزب عام 1994 أثناء الكفاح من أجل الاستقلال، على أيديولوجية كوامى نكروما، وتقوم أيديولوجية الحزب على أنه حزب شعبى يضم جميع الفئات الشعبية من المزارعين والصيادين والحرفيين جنبًا إلى جنب مع الأغنياء والفقراء إلى حد سواء.
حزب التضامن الشعبى العظيم: أنشئ الحزب فى 18 سبتمبر 1996، وجاءت نشأته كرد فعل على خسارة حزب الشعب لانتخابات 1992، وركز البرنامج الانتخابى للحزب على تحرير الاقتصاد من الهيمنة الأجنبية والتركيز على التنمية الصناعية.
حزب المؤتمر الشعبى الوطنى: تأسس الحزب عام 1992، وهو يزعم أنه الحزب النكرومى الحقيقى، وأنه يمثل الامتداد الفكرى والسياسى الذى أسسه نكروما، بالإضافة إلى حزب المؤتمر الوطنى الديمقراطى، وهو الذى استمد قوته الأساسية من ارتباطه بالرئيس رولينجرز.
كرة القدم وحلم تحقيق الوحدة الأفريقية.. استفاد نكروما من كرة القدم فى أفريقيا لإعطاء المزيد من القوة للمشاركة الأفريقية فى كرة القدم، وسعى لتعزيز وجود كرة القدم الأفريقية فى الساحة الرياضية الدولية والحصول على اعتراف عالمى بفجر أفريقيا الجديد.
أراد نكروما أن تكون غانا الرياضية فى طليعة الدول التى تنضم إلى الفيفا، ونجح فى ذلك بإعلان الفيفا رسميا، ضم غانا عام 1958، ولكن على الرغم من حرص نكروما على التأثير على كرة القدم الأفريقية، فإنه لم يكن الوحيد الذى لديه مثل هذا الهدف.
تم تأسيس الاتحاد الأفريقى لكرة القدم فى عام 1957 من قبل مصر وإثيوبيا وجنوب أفريقيا والسودان، كان الهدف الرئيسى لـ«الكاف» هو تنظيم كأس الأمم الأفريقية، كان لأوروبا بطولة أوروبا، وكذلك لأمريكا الجنوبية كوبا أمريكا، وسعى الاتحاد الأفريقى لكرة القدم لتنظيم بطولة أممية لكرة القدم الأفريقية. بعد أول كأس للأمم الأفريقية التى عقدت فى عام 1957 أصبح نكروما مهتمًا بالانتساب إلى الكاف.
كان كوامى، وهو سياسى داهية، على وعى بالسلطة الموحدة التى اكتسبتها كرة القدم، وبعد عام 1957 بوقت قصير، بدأ نكروما يبحث عن طرق لدمج علامته الأفريقية مع كرة القدم الأفريقية.
فى عام 1964 تبرع نكروما بـ250 ألف دولار لإنشاء بطولة الأندية الأفريقية. كان الاتحاد الأفريقى لكرة القدم ممتنًا للتبرع الذى قام بتمويل البطولة بشكل فعال، جاء التبرع بثمن كبير، حيث اكتسب نكروما صوتا أكبر داخل الكاف، وبدأ فى نشر أفكاره عن أفريقيا موحدة بين زملائه.
عندما فازت غانا بكأس أمم أفريقيا مرة أخرى فى عام 1965، شعر نكروما أنه لا يقهر، وتأكد أن سياسته الخارجية فى عموم أفريقيا تنطلق، وكان فريق كرة القدم يساعده.
كان لدى كوامى نكروما حلم طموح لتوحيد كل أفريقيا، ورأى فى كرة القدم أداة دولية، وتحرك من أجل تطوير اللعبة الأفريقية، ساعد فى تمويل بطولة الأندية الأفريقية وكان محورا فى مقاطعة كأس العالم 1966 .
كل هذه التحركات التى قام بها نكروما تؤكد أن الرجل سعى منذ ريعان شبابه إلى دعم فكرة الوحدة الأفريقية وتوحيد شعوب القارة فى منظومة واحدة، وسعى إلى تحقيق حلمه بدعم «كاف» ووجد فى الرياضة السلاح الناجع والقوى لحلمه الذى طالما سعى إلى تحقيقه وهو توحيد دول القارة الأفريقية.
وعلى الرغم من مرور عقود على رحيل نكروما، فإن شعوب القارة الأفريقية لا تنسى الدور الكبير الذى لعبه الزعيم الغانى الذى حفر اسمه بحروف من نور فى وجدان الأفارقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة