يمكن القول بأن «يومًا أو بعض يوم» هى شهادة وافية عن مصر فى مراحل مختلفة، استطاع سلماوى بما يملكه من وثائق وصور وتفاصيل مكتملة الأركان أن يقدمها لنا مستغلًا كونه أديبًا كبيرًا.
فى مذكرات محمد سلماوى، الصادرة عام 2017، عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، الجميع حاضر الجغرافيا والتاريخ والثقافة، الشخصيات والحكايات، كل شىء يتطور أو يتغير أو ينتهى، هنا الجميع يدخل دائرة الأحداث، فالحكام، ملوك ورؤساء ووزراء وأصحاب رأس المال، لديهم مشكلاتهم، وهنا أيضًا البسطاء، موظفون وعمال ومفكرون ومثقفون وحالمون، لديهم أزماتهم، لا أحد يمر فى مذكرات محمد سلماوى إلا وقد تورط فى الحكاية وتحول إلى بؤرة للأحداث.
جده يتبرع لـ«أخبار اليوم» بخزانته لجلب الحظ ويشترى مليون فردة من الجيش الإنجليزى
محمد سلماوى كان حفيد محمد شتا بك، ذلك الرجل الذى كان له مواقف مع تأسيس مؤسسة أخبار اليوم، والجيش الإنجليزى، فيحكى لنا «سلماوى» أنه فى عام 1960، وفى سياق احتفال «أخبار اليوم» بالذكرى السادسة عشرة لتأسيسها، كتب مصطفى أمين عن من دعموا الجريدة ومنهم أحمد عبود باشا وأمين يحيى باشا والوجيه محمد شتا بك الذى عرض أن يقرض المؤسسة 50 ألف جنيه بدون فؤائد، إلا أن المؤسسة رفضت بحجة أنها تعرض الأموال للضياع، ليرد هو عليهم: «ما رأيكم أن أهديكم خزانتى الحديدية؟ هذه الخزانة تجلب الحظ» وقد جلبها خالية، ومن حينها وجلبت الخزانة الحظ للمؤسسة العريقة.
وفى مقال مصطفى أمين نفسه، روى قصة طريفة كان بطلها محمد شتا بك أيضًا، حيث كان عرض الجيش الإنجليزى مليون فردة حذاء للبيع بعشرين جنيهًا فقط، لأنه كانت «فردة شمال» فاشتراها شتا بك على الفور، وعندما سأل عن الفرد اليمين، قالوا له إن المركب الذى يحمل الفرد اليمين غرق فى البحر، لكنه لم يقتنع بذلك وبحسه التجارى يظل يبحث عن الفرد اليمين الضائعة، حتى وجد الجيش البريطانى يعرض مليون فردة حذاء بمائة جنيه «فرد يمين»، فظل يتفاوض حتى يخفض المبلغ إلى 60 جنيهًا، واشتراها، ووضعها مع «الشمال» وكسب الملايين.
التمرد يقوده إلى «الإلحاد» والله يحس بالروح ولا يعرف العقل
فى سنوات المراهقة تحدى «سلماوى» كل شىء، ووصل به التمرد إلى منتهاه حين اختار أن يكون ملحدًا، ولا ينصاع لعقيدة لم يقتنع بها عقله المتمرد، لكن تلك القصة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما اكتشف أن قلبه مؤمن، وإذا كان عقله قاصرًا عن فهم الله، فذلك لأنه من المحال إحضاره ماهية الذات الإلهية للعقل البشرى الذى خلق لتدبر أمور الدنيا.
ويقول: «ليس صحيح أن «الله عرفوه بالعقل» كما يقول المثل الشائع، وإنما الله يحُس بالروح، فهى نفخ من روح الله «فنفخنا فيه من روحنا «التحريم: 12»، وقد توقفت طويلًا عند الآية الكريمة «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً»، «الإسراء: 85»، فإذا كان العقل البشرى قاصرًا عن فهم الروح، فهل يكون قادرًا على فهم الله الذى خلق الروح؟».
أول قصة حب فى «ليبون» ورسائل الحب على أنغام داليدا
فى عمارة ليبون كان أول شعور له بالحب فى سن المراهقة، وكانت ابنة الجيران، فقد كان يسكن فى الدور الأسفل مباشرة أحد كبار العاملين فى مجال الإنتاج السينمائى، له ابنة اسمها «ميراى» وكان فى ذلك الوقت قد تعرف على الصوت الشجى العميق للمطربة المصرية داليدا التى عشقها على فور ما سمعها أول مرة، وكان مثلما يذهب إلى غرف الاستقبال ليقرأ أو يذاكر، يذهب إليها ليستمع إلى الموسيقى، فقد كان الراديو والأسطوانات وجهاز التسجيل فى الصالة التى تقع بمدخل البيت، وكان للصالة شباك يطل على منور العمارة، وتحته تمام شباك الشقة التى تسكنها ابنة الجيران، وكان يدير أسطوانات داليدا فيجدها هى أيضًا تديرها، وهكذا أصبحوا يتجاذبون أطراف الحديث بواسطة أغانى داليدا.
كان يدير الأغنية التى تضمن رسالة يريد إرسالها لـ«ميراى» حبيبته، فيجدها ترد على رسالته بأغنية أخرى لداليدا، وظلوا على هذا الحال لعدة شهور، بعثوا خلالها لبعضهم البعض بكل رسائل الحب الممكنة وغير الممكنة، لكن الغريب فى الموضوع كما يرى «سلماوى» أنه حين كان يتقابل هو وميراى مصادفة فى مصعد العمارة لم يتبادلوا أية كلمات، ولم يكن ينظر إليها ولا كانت هى تنظر إليه، وكأن كلا منهما لا يعرف الآخر ولا يتبادل معه أرق كلمات الحب بصوت «داليدا».
عمر خورشيد صديق الطفولة
يذكر محمد سلماوى، علاقته بعازف الجيتار الشهير عمر خورشيد، حيث كان يقيم معه فى العمارة نفسها وكانت تربط بينهما علاقة صداقة حميمة حيث كان معه أيضًا فى المدرسة، وكانا ينتظران سويا أتوبيس المدرسة كل صباح، إلى أن انتقل إلى مدرسة أخرى، وكان يأتى عمر كثيرًا للمذاكرة، لكن بعد أقل من نصف ساعة كانا يتركان المذاكرة ويخرجان للصالون ليعزفان الموسيقى، وكان شقيقه أشرف يعزف على البيانو، ويعزف عمر على الجيتار، ويقوم «محمد» بالغناء إلى أن تأتى والدته من الداخل لتقول لهما: «حلوة قوى المذاكرى دى»، وذات مرة كانا يحتفلان بعيد ميلاد شقيقته الصغرى «هداية» بعد أيام، فقالت له والدته: «ابقى هات عمر وذاكروا شوية عشان أصحاب أختك يهيصوا».
من الإذاعة المدرسية إلى البرنامج الأوروبى بالإذاعة المصرية
واحدة من التجارب التى خاضها محمد سلماوى فى حياته المبكرة هى عمله بالبرنامج الأوروبى بالإذاعة المصرية، فبعد دخوله الجامعة كانت تطورت ميوله الإذاعية عند التحاقه بها، وبعدما كان يشارك فى الإذاعة المدرسية، أصبح يقدم برنامجًا فى الإذاعة المصرية.
وكان أول عمل رسمى يتقاضى منه أجرًا، حيث كان له برنامج أسبوعى اسمه «رابسودى» لايزال يحتفظ بتسجيلاته، يقدم فيه قراءات من الشعر الإنجليزى، على خلفية من الموسيقى الكلاسيكية المناسبة، كما قدم برنامجا آخر بعنوان «نادى الجاز» قدم فيه أعلام هذه الموسيقى التى لم يكن هناك برنامج آخر يختص بها على أن البرنامج الذى أخذ منه جهدًا كبيرًا كان بعنوان «كلوز أب» وكان يقدم فى كل حلقة منه علمًا من الأعلام المصرية للمستمع الأجنبى سواء فى مجالات الثقافة أو السياسة أو الفن أو الاقتصاد.
تجربة تمثيل فى «شنبو فى المصيدة»
يروى «سلماوى» عن واحدة من أغرب التجارب التى واجهها، وهى مشاركته كممثل فى أحد الأفلام السينمائية، ففى السنة الأخيرة بالجامعة حضر المخرج الراحل حسام الدين مصطفى إلى كلية الآداب ليختار من أعضاء فريق التمثيل بقسم اللغة الإنجليزية من يصلحون للتمثيل فى فيلم كوميدى كان يستعد لإخراجه لفؤاد المهندس وشويكار، هو فيلم «شنبو فى المصيدة» من تأليف الكاتب الصحفى الراحل أحمد رجب، وقد وقع الاختيار على «سلماوى» وطالبة أخرى كانت ممثلة مسرحية جيدة، فوافق على الفور، وذهب إلى اختبار الكاميرا ونجح ورسبت زميلته، وحين جاء وقت التنفيذ بعد ذلك بشهور وتلقى أوردر «التصوير»، فطلب نسخة من سيناريو الفيلم ليقرأه، لكن مساعد المخرج، وكان اسمه أحمد السبعاوى، أخبره أنه لم يعد هناك نسخ من السيناريو، فاستفسر منه، «كيف سأؤدى دورى إذن؟»، فضحك وقال له: «هقولك الكلام وأنت تقوله ورايا للكاميرا».
ويقول سلماوى عن تجربته فى الفيلم: «كان الفيلم هزليا، وكان دورى أكثر هزلا، ولم تعجبنى التجربة فلم أكررها».
عندما قالت أم كلثوم: «لموا الآلات يا ولاد»
هذه المرة سأنقل ما كتبه سلماوى عما فعلته أم كلثوم فى حفلة باريس على مسرح «الأولمبيا»، حيث حصلت على أعلى أجر حصل عليه مطرب وقف على خشبة هذا المسرح وتبرعت به كله لصالح المجهود الحربى فى مصر، وكان ذلك بعد 6 أشهر على هزيمة 1967.
يقول سلماوى «فى الاستراحة فوجئت بـ«كوكاتريكس»، «صاحب ومدير مسرح الأولمبيا» يهرع إلى، طالبا منى التوجه معه إلى «مدام أم» كما كان ينادى أم كلثوم، متصورا أن هذا هو اسمها وأن «كلثوم» هو لقب العائلة، وقد كان كثيرا ما يحتاج إلى الترجمة فى حديثه مع أم كلثوم التى لم تكن تحدثه إلا باللغة العربية، وقد تصورت فى البداية أنها لا تجيد الفرنسية، إلى أن استمعت إليها تتحدثها بسهولة.
كانت أم كلثوم جالسة وسط الفرقة الموسيقية على كرسى مذهب من طراز «لويس السادس عشر» غير الكرسى الخيزران الذى اعتدناه فى حفلاتها بالقاهرة.
كان عازف الكمان الأول أحمد الحفناوى إلى جوارها، وكان بقية أعضاء الفرقة يستمعون إليها وهى تبدى لهم بعض الملاحظات، فحياها «كوكاتريكس» وقبل يدها، فردت عليه التحية من دون أن تنهض من كرسيها. فأبدى مدير المسرح اعتراضه على طريقة تقديم الوصلة الأولى من الحفل التى «تحدث فيها المذيع حديثا سياسيا ليس هذا مجاله»، على حد قوله، وكان جلال معوض قد قدم الحفل باعتباره نصرا سياسيا للعرب، وقال: «اليوم تشدو كوكب الشرق فى عاصمة النور باريس، وغدا بإذن الله تشدو فى القدس المحررة»، وناشد «كوكاتريكس» أم كلثوم أن تطلب من «المذيع» ألا يقدم الوصلة الثانية بهذه الطريقة الحماسية مضيفا «نحن فى حفل فنى، ولسنا فى مناسبة وطنية».
وشعرت بالحرج من الموقف، وتحيرت كيف سأترجم ذلك لأم كلثوم، لعلمى بأنها لن تقبل هذا الكلام، لكننى قبل أن أنتقى كلماتى، وجدتها تنتفض واقفة وقد فهمت من دون ترجمة كل ما قاله المدير اليهودى للمسرح، وقالت: «قل له بل نحن فى مناسبة وطنية، وإنى جئت إلى فرنسا من أجل المساهمة فى المجهود الحربى لبلادى، وإذا كان أسلوبنا لا يروق له فليعتبر اتفاقنا لاغيا، ثم التفتت إلى الموسيقيين وقالت لهم «لموا الآلات يا ولاد».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة