أثناء مشاهدتها فيلما فى سينما ريفولى بالقاهرة، أصيبت السيدة «فاطمة اليوسف» الشهيرة بـ«روزاليوسف» بأزمة قلبية، لكنها تماسكت وطلبت من صديقتها التى كانت معها أن تنصرفا، وفى منزلها ارتدت ملابس النوم ودخلت سريرها وماتت عليه خلال نصف ساعة يوم 10 إبريل- مثل هذا اليوم- 1958.
كان موتها ختاما لحياة عاشتها وسط أمواج متلاطمة قذفت بها من شاطئ إلى آخر، حتى استوت تجاربها فسجلها التاريخ بحروف من نور.. امتلأت حياتها بالأحداث الكبيرة منذ مولدها، ولم تهزمها أشواك الطريق، فأصبحت من علامات التاريخ العربى، وحسب مجلد «روزاليوسف 80 سنة صحافة - 2006»عن «مكتبة الإسكندرية»: «كانت شعلة أضاءت الطريق لميلاد امرأة عربية تطرق أبواب القرن العشرين، وتسعى للخلاص من ميراث عصور طويلة»، وتبقى سيرتها مع الحياة ترجمة لمقولتها: «كلنا سنموت، ولكن هناك فرقا بين شخص يموت وينتهى، وشخص مثلى يموت ولكن يظل حيا بسيرته وحياته».
حسب مجلد «رزواليوسف 80 سنة صحافة»، فإنها ولدت عام 1898 فى طرابلس اللبنانية لأبوين مسلمين هما، محمد محيى الدين اليوسف والسيدة جميلة، واسمها الحقيقى فاطمة اليوسف، وكانت طفلة رقيقة البنية حلوة الوجه، صغيرة القد، خافتة الصوت، جديرة بالحب والرعاية، ومفخرة لأى والدين بما وهبها الله من ذكاء وجمال، لكنها عاشت طفولة قاسية عانت منها كثيرا، فبعد وفاة والدتها عقب إنجابها، أودعها لدى أسرة مسيحية حتى ترتب لها أمرها من تربية وتعليم فى مقابل أجر كريم كان يدفعه لهذه الأسرة، فى الوقت ذاته ترك مربيتها خديجة معها، وسارت الأمور على هذا النحو، يزورها والدها من حين لآخر يطمئن عليها، ويمد الأسرة بالمال الوفير، دون حدوث أى صدام أوخلافات، حتى جاءت اللحظة التى انقطعت فيها أخبار والدها، فبدأت هذه الأسرة فى تغيير معاملتها، فتبدل الحنان إلى قسوة، والعطاء إلى بخل، والمحبة إلى كراهية، وتغير اسمها من «فاطمة» إلى «روز» لكى يتوافق مع دين الأسرة.
تهيأت الظروف لهجرتها إلى البرازيل مع أحد أصدقاء أسرتها،واندهشت الصبية حين لبى كافلوها رغبة الصديق فى حماس، فما كان منها إلا أن رحبت هى الأخرى بالفكرة فى حماس كبير، والغريب أنها لم تشعر بأى أسى أو حزن لفراق واحد فى طرابلس إلا مربيتها خديجة، وفى طريقها إلى البرازيل رست السفينة فى الإسكندرية ونزلت الصبية إلى المدينة فبهرتها أضواؤها ولم تعد إلى السفينة.. عاشت فى الإسكندرية مع أسرة إسكندر فرح، الذى عاملها كابنة من بناته، ثم ما لبثت الفتاة أن تحسست تباشير الفن والتمثيل حيث كان إسكندر يملك فرقة تمثيل لعلها كانت آخر الفرق الشامية الوافدة إلى مصر واسمها فرقة «الجوق المصرى العربى» التى ظلت تعمل من 1891 إلى 1909، وتدرب فيها عدد كبير من الممثلين المصريين».
جاءت إلى القاهرة لتبدأ تدريجيا رحلتها التى ستجعلها واحدة من علامات الطريق إلى التقدم والنهضة فى الشرق.. يلخص ابنها الكاتب والروائى إحسان عبدالقدوس هذه الرحلة فى مقدمته لمذكراتها: «هى التى التقطت دروس الفن وجعلت من نفسها «سارة برنارد الشرق» كما أطلق عليها نقاد ذلك الجيل.. هى التى علمت نفسها القراءة، ولم تدخل مدرسة ولا اضطرها أحد إلى تعلمها».
فى القاهرة وكما تكشف فى مذكراتها «ذكريات».. «كانت تتردد على مسرح «دار التمثيل العربى» تتفرج على المسرحيات، وعلى أبطال هذه الحياة الغريبة التى تجرى أمام أعينها على المسرح»، تضيف: «كانت فرقة «عبد الله عكاشة» تحتل هذا المسرح بعد أن اعتزل الشيخ سلامة حجازى التمثيل، وتقدم روايات غنائية من نفس النوع الذى كان يقدمه حجازى، مثل روايات «شهداء الغرام» و«تليمات» و«الأندلس».. وهى روايات لابد أن يكون بطلها مطربا، ولابد أن يغنى المطرب فيها بضع قصائد، لاعلاقة لها أبدا بموضوع الرواية، بل لمجرد اجتذاب الناس الذين كانوا لا يشهدون التمثيل إلا إذا كان فيه مغنى».
تكشف، أنه من خلال ترددها على مسرح «دار التمثيل العربى» اكتشفها الفنان عزيز عيد، وأسند إليها دورا فى مسرحية «عواطف البنين»، وبالرغم من أنها كانت فتاة صغيرة كان دورها فى المسرحية جدة عجوزا، ونجحت فيه نجاحا هائلا ولم يكن هذا النجاح هو كل ما أثمرته فى تلك المسرحية، بل كان مكسبها الأكبر فى عزيز عيد نفسه، فحتى ذلك الوقت لم تكن باعترافها عرفت حنان الأبوة فعوضها عن ذلك.. تؤكد: «استرحت إليه وشعرت كأن كل مايحيط بحياتى من الوحدة والألم والضعف والشرود يسقط، ووجدت فى هذا الرجل القصير، المحدودب، أبا جديدا».
تؤكد، أن عزيز عيد آمن بنبوغها، وأخذ يعلمها بكل قواه، ويشترى لها الكتب لتقرأ، وأحضر لها شيخا يلقنها دروسا فى اللغة العربية نظير خمسين قرشا فى الشهر يدفعها من جيبه، وأخذ يحدثها بالفرنسية حتى تعلمتها تدريجيا منه، وأمام هذا الاهتمام انصرفت إلى الفن تنهل من موارده وتتعمق فى أسراره، وتقف على خشبة المسرح حتى قررت اعتزاله عام 1925 واتجهت إلى الصحافة، وتلك قصة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة