- سلسلة كتيبات للمنظمة العالمية لخريجى الأزهر تفند دعاوى المتشددين و تتصدى لحروب التشويه ضد الإسلام وتعالج القضايا الفقهية
- ارتكاب المعاصى لا يكفر المسلم وما ورد من نصوص تصف العصاة بالكفر ليس المراد منه الخروج من الملة.
- لا وصف دولة ترفع الأذان وتقيم الصلوات وتسمح بحرية الشعائر لكل الأديان والعقائد بأنها دار كفر وجاهلية
أفكار متطرفة وجماعات متشددة، تلصق نفسها باسم الإسلام والإسلام منها برىء، وتشوه بممارساتها صورته، ما أظهر الحاجة لدى المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف لضرورة الرد على تلك الحجج التى يسوقها أرباب الفكر المتطرف، ويلصقونها بالدين، بينما يحاول علماء الدين فى شتى بقاع الأرض رفع تلك التهمة عن الدين الحنيف، وفى هذا الإطار حاولت المنظمة العالمية لخريجى الأزهر أن تلعب دورها، خاصة وهى التى تمتلك مركزا متخصصا لتفنيد الفكر المتطرف، فعملت على إصدار سلسلة كتيبات بعنوان «سلسلة تفنيد الفكر المتطرف» مخصصة للرد على حجج الجماعات الإرهابية الواهية، الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان.
السلسلة التى تصدى لتقديمها الشيخ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وكتب فيها أئمة الجامع الأزهر وعلماء جامعته الكبيرة، أصدرت حتى اليوم 11 كتابا، كل كتيب منها يختص بمعالجة قضية فقهية محددة من بينها مفهوم المواطنة الذى ألفه الشيخ الدكتور عبد الفتاح العوارى عميد كلية أصول الدين، وآخر بعنوان موقف الإسلام من استخدام الدروع البشرية، وثالث يحدد موقف الإسلام من العمليات الانتحارية، ورابع يضرب أمثالا من حالات الغلو فى العهد النبوى، وكيف تمت معالجتها، وخامس يشرح مفهوم الحاكمية فى الإسلام، وسادس عن الجهاد فى الإسلام وضوابطه، وسابع لقضية الولاء والبراء ومفهومها ونشأتها، وثامن لمفهوم الخلافة، وتاسع لمفهوم الجاهلية، وهكذا ليصبح بين يدى القارئ سلسلة كاملة متخصصة للرد على تلك المزاعم التى ألصقتها جماعة العنف الدينى بالإسلام.
أخذت المنظمة العالمية لخريجى الأزهر الشريف على عاتقها مهمة المساهمة فى جهود مؤسسة الأزهر للتصدى لأفكار ودعاوى المتطرفين، وحروب التشويه التى تستهدف الدين الحنيف، عبر إطلاق دعاوى وفتاوى، تستهدف وصم الإسلام بالتشدد والتطرف، وفى هذا الإطار انتهت المنظمة من تأسيس مشروع تفنيد الفكر المتطرف، لإعداد الإصدارات العلمية المطبوعة، التى تعنى بتفكيك الفكر المتطرف، والرد على شبهات الجماعات الإرهابية.
مشروع تفنيد الفكر المتطرف، يهدف إلى التأصيل العلمى الدقيق للرد على الأفكار الدينية المغلوطة التى يلجأ إليها أصحاب الفكر المتطرف فى إطار مخططهم لاستقطاب الشباب والفتيات، واكتساب تعاطفهم مع أفكارهم وأعمالهم الإجرامية فى حق الدين وحق الإنسانية.
المشروع أنجز أحد عشر كتابا مطبوعا للرد على كتب المتطرفين، احتوت على ما يقرب من ثلاثين قضية ومسألة دينية، منها: الولاء والبراء، ومفهوم الكفر والإيمان، ومعاملة أهل الكتاب، ومسألة الجزية، وموضوع الخلافة، ودار الكفر ودار الإسلام، وغيرها، وذلك ضمن المشروع الذى يتم تحت إشراف الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وأسامة ياسين، رئيس مجلس إدارة المشروع ونائب رئيس المنظمة العالمية لخريجى الأزهر، ومدير عام المشروع الدكتور حمد الله الصفتى.
تحت عنوان «مفهوم الجاهلية» كتب الدكتور عبدالفتاح العوارى، عميد كلية أصول الدين بالقاهرة، موضحا أن هناك نداءات ودعاوى تظهر فى وسائل التواصل الاجتماعى «فيس بوك، وتويتر» وغيرهما تطلقها بعض الجماعات المتطرفة، تصف فيها المجتمعات المسلمة بأنَّها مجتمعات جاهلية، ومعْوَجَّة السلوك إلى الحد الذى يخشى المسلم فيه على دينه وخلقه، ويترتب على فكر هذه الجماعات وقولهم بجاهلية المجتمع، دعوتهم إلى تشكيل مجتمع إسلامى خاص بهم، تطبق فيه أحكام الله، وتعلو فيه راية الإسلام، وتتسع رقعته بزعمهم، وتابع: لا ندرى ما الذى سوغ لهؤلاء المتطرفين ومن لفَّ لفَّهم رمى المجتمعات المسلمة بالجاهلية؟ وعلام استندوا فى دعواهم تلك؟
منظمة خريجى الأزهر
قيود
ويلفت العوارى إلى أن كلمة «الجاهلية» وردت فى أربعة مواضع فى القرآن الكريم، الأول فى قوله تعالى: «يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية»، والثانى، قوله تعالى: «أفحكم الجاهلية يبغون»، والموضع الثالث، قوله تعالى: «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» والرابع، قوله تعالى: «إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحميّة حمية الجاهلية».
ويتابع أن المتأمل فى هذه الآيات الأربع يجد أنَّ كلمة الجاهلية لم تأت مطلقةً، وإنَّما جاءت مقيدة، ففى آية سورة آل عمران جاءت مقرونة بكلمة الظنِّ أو وصفًا لهذا الظنِّ، وفى آية سورة المائدة جاءت مقرونة بكلمة الحكم أو وصفًا لهذا الحكم، وفى آية سورة الأحزاب جاءت مقرونة بالتبرج أو وصفًا لهذا التبرج، إلا أنها زادت قيدًا آخر هو وصف الجاهلية بأنَّها الأولى إشارة- كما قال بعض المفسرين- إلى جاهلية سبقت الإسلام مباشرة، وفى آية سورة الفتح جاءت مقترنة بلفظ الحمية أو وصفًا لهذه الحمية.
والمقصود من ذلك كله الإشارة إلى خصلة من خصال المجتمع الجاهلى الذى كان سائداً قبل الإسلام، ويدل على هذا سياق كل آيةٍ، فآية آل عمران وهى قول الله تعالى «يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية» جاءت فى سياق الحديث عن آثار هزيمة المسلمين فى غزوة أُحد، حيث يغشى النعاس الطائفة المؤمنة من المهاجرين والأنصار ممن كانوا على يقين بالله، وبصيرة فى إيمانهم، والطائفة الأخرى قد أهمتهم أنفسهم، وملأ الخوف قلوبهم لعدم ثقتهم بنصر الله وهذا الصنف هم الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وفى بيان ذلك يقول الإمام الفخر الرازى: «اعلم أن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان، أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيٌّ حق من عند الله تعالى، وأنه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحىّ يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين، ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة «غزوة أحد» لا تؤدّى إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس أمنة منه، فإن النوم لا يجىء مع الخوف، فمجىء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، وأما الطائفة الثانية، وهم المنافقون الذين كانوا شاكين فى نبوته صلى الله عليه وسلم، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم، وعظم خوفهم، فكان من وصف حالهم ما قرره الله تعالى بقوله: «وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية»، فهم كانوا يقولون فى أنفسهم: «لو كان محمد محقاً فى دعواه، لما سلّط الكفار عليه».
وأما آية المائدة وهى قول الله تعالى: «أفحكم الجاهلية يبغون»، فقد جاءت فى سياق الحديث عن جماعة من أحبار اليهود، أرادوا التآمر على النبى صلى الله عليه وسلم بفتنته عن دينه، كما ذكر ذلك رواة السير من أن كعب بن أسد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فجاؤوه فقالوا يا محمد إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود، وأشرافهم وساداتهم، وإنا إنْ اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضى لنا عليهم، ونؤمن بك فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم قوله جل وعلا «وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإنْ تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون».
ويشير إلى أن اليهود كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، وكانت اليهود تطبق الحدود على الضعفاء والفقراء، ولا يطبقونها على الأقوياء والأغنياء فضارعوا الجاهلية فى هذا الفعل، فنزلت الآية فاضحة حال اليهود الذين هم أهل كتاب وعلم، ومع ذلك يبغون حكم الجاهلية التى هى هوى وجهل.
القوصى
وأما آية «الأحزاب» ﴿ولا تبرجن تبّرج الجاهلية الأولى﴾ فقد جاءت فى معرض الحديث عن نساء حضرة النبى ﷺ، وتأديبهن بجملة من الآداب العالية، والخصال الكريمة، حيث أُمِرْن بقوة الكلام، وعدم إلانة القول للرجال، وبالقرار فى البيوت باعتبار البيت أصل قرار الأسرة، ثم جاء النهى عن تبرج الجاهلية القديمة قبل الإسلام، حيث كان من سيرة النساء غير الحرائر إبداءَ الزينة، وإظهار المحاسن للرجال.
وعن آية «الفتح» التى وردت فيها كلمة «حمية الجاهلية» فقد جاءت فى سياق ذم الله تعالى قريشاً، إذ منعوا المؤمنين دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم النبى ﷺ مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدى، وحبسوه أنْ يبلغ محله، ولم يكن هذا من اعتقادهم، ولكنهم حملتهم الأنفة، ودعتهم حمية الجاهلية إلى أنْ يفعلوا ما لا يعتقدونه، فوبخهم الله على ذلك، وتوعدهم عليه وآنس رسوله ﷺببيانه ووعده.
ويخلص عميد كلية أصول الدين بالقاهرة إلى القول بأن إطلاق كلمة الجاهلية دون تقييد لا يجوز بحالٍ من الأحوال لسببين:
أولهما، أنَّ الكلمة إذا أُطلقت دون تقييد، فإنَّها تتضمن معنى الكفر، وهذا يعنى وصف المجتمع بأنَّه جاهلى العقيدة والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، والأحكام، والسلوك، ولا يخفى أنَّ وصفه بأنَّه جاهلى العقيدة لا يعنى إلا الكفر، وهذا من الخطورة بمكان؛ إذ لا يكفر الإنسان إلا إذا اعتقد أنَّ حكم الجاهلية أحسن من حكم الله، أمَّا إذا اعتقد أنَّ حكم الله هو الأحسن لكنَّه عدل عنه إلى غيره لظرفٍ من الظروف فإنَّه لا يكفر بذلك.
ثانيهما: أنَّ القرآن يعنى بالجاهلية فترة زمنية من الفترات التى سبقت الإسلام، وسادها الشرك، والوثنية، وانعدم فيها الدين الصحيح، كالفترة بين رسولين، ورسالتين، وشريعتين.
ويواصل: «وقد انتهى الوصف المطلق بكلمة الجاهلية بمجىء الإسلام، وإن رمت دليلًا على ذلك فإليك هذا الحديث الصحيح «سأل حذيفة بن اليمان – رضى الله عنه – رسول الله ﷺ: «إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ» قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».
ويلفت العوارى إلى دقة حذيفة – رضى الله عنه - فى استعمال كلمة الجاهلية، عندما تحدث عمَّا قبل الإسلام، فذكر لفظ الجاهلية، وعندما تحدث عمَّا بعد الإسلام لم يذكره، وإنَّما ذكر لفظ الشر، وفى هذا دلالة واضحة على أنَّ الوصف المطلق للمجتمع بالجاهلية قاصرٌ على ما قبل الإسلام.
كتاب مفهوم الجاهلية
أحكام فى المعاصى
يقول الدكتور عبد الفتاح العوارى، إنَّ تكفير أى إنسان أو اتهامه بالفسق، والضلال، والانحراف، أو النفاق أمر عظيم، وشر وخيم، شديد الخطر، وعظيم الضرر، حيث إنه يجرده عمليًا من حقوقه الإنسانية، ويعرضه للإهانة، والقتل، والطرد من المجتمع, وإذا اتخذت عملية التكفير طابعًا جماعيًا، وشملت جماعة، أو طائفة، أو المجتمع كله، فإنها تعرض ذلك المجتمع إلى الفرقة والاختلاف.
ويضيف أن المسلم إذا ارتكب معصية من المعاصى، كشرب الخمر، أو القتل، أو غيرهما من المعاصى، لا يجوز تكفيره، وما ورد من نصوص تصف مرتكب المعاصى بالكفر، فليس المراد منه الكفر المخرج من الملة، وقد ترجم البخارى – رحمه الله – فى صحيحه بابًا من كتاب الإيمان بقوله: «بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ»، وعلق الحافظ ابن حجر – رحمه الله – على صنيعه هذا بقوله: «قَالَ الْقَاضِى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِى فِى شَرْحِهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّاعَاتِ كَمَا تُسَمَّى إِيمَانًا كَذَلِكَ الْمَعَاصِى تُسَمَّى كُفْرًا، لَكِنْ حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ لَا يُرَادُ الْكُفْرُ الْمُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ»، ثم ترجم عقب الباب السابق بابًا آخر، فقال: «باب الْمَعَاصِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلا بِالشِّرْكِ باللَّه لِقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
وذكر تحته هذا الحديث، عن الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنى سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم: تمت يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ».
وعلق الحافظ ابن حجر – رحمه الله – قائلًا: «إِنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهِى مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالشِّرْكُ أَكْبَرُ الْمَعَاصِى، وَلِهَذَا اسْتَثْنَاهُ وَمُحَصَّلُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمَعَاصِى يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ مَجَازًا عَلَى إِرَادَةِ كُفْرِ النِّعْمَةِ لَا كُفْرِ الْجَحْدِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ».
عبد الفتاح العوارى
فهذا أبو ذر رضى الله عنه، وهو مَنْ هو فى سابقته وصدقه وجهاده، يصفه النبى - صلى الله عليه وسلم - أنَّ فيه شيئًا من الجاهلية وصفاتها، ومع هذا لم يخرج عن دائرة الإيمان، وهذا حاطب بن أبى بلتعة - رضى الله عنه - ارتكب خطيئة بنقله أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأسراره وتحركات جيشه إلى قريش قبل الفتح، ومع ذلك خاطبه القرآن فيمَنْ خاطب فى مستهل سورة الممتحنة بعنوان الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} .
يقول على -رضى الله تعالى عنه: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِى الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَىََّ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّى كُنْتُ امْرَؤ مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِى، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِى، يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.
يقول الدكتور العوارى: بعد كلِّ هذه النصوص نتساءل متعجبين: كيف يزعم هؤلاء المتطرفون أنَّ المسلم يكفر بارتكاب معصية؟ وكيف يزعمون أنَّ المجتمع يكفر لانتشار الفواحش ووقوع أفراده فيها؟!
إنّ هؤلاء مخطئون - بلا شك - فى حكمهم على المجتمع بالكفر، ووصفه بالجاهلية، إذ كيف يكون مجتمع يُرفع فيه الأذان، وتُقام فيه الصلوات، وتُمارس فيه شعائر الدين فى أمن واطمئنان! كيف يكون دار كفر يُوصف بالجاهلية، ويُحارب القائمون على الأمر فيه!
وتابع: هل مُنع أحدٌ فى ذلك المجتمع من الصلاة أو الصيام أو الحج أو ممارسة حقوقه المشروعة فى العمل والتعليم وتولى الوظائف؟ وكيف يُحكم على مجتمعٍ بأنَّه غير إسلامى وهو يقرُّ ويعترف ويرضى أن يكون الإسلام دينه الرسمى؟
ويؤكد أن ذلك بمثابة الشهادتين «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله»، فهل بعد الإقرار الرسمى كتابة وقولاً نحكم على المجتمع بالكفر؟، مشددا على أن «أىَ مجتمعٍ لا يخلو من معصيةٍ ومن أخطاء، والمجتمع المثالى وهو مجتمع الرسول وصحابته كانت فيه بعض الأخطاء الفردية، فهل يمكن لعاقل أن يصفه بأنَّه مجتمع جاهلى؟ سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم».
وينتهى إلى القول: «من هنا نقرر أنَّ وجود شىء من المعاصى أو الفواحش فى مجتمعٍ لا يعنى أنَّه جاهلى بحال من الأحوال، كما لا يعنى سيادة الجاهلية وعمومها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة