يبدو أن دروسا عدة استلهمها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من تجارب أسلافه، خاصة منذ نهاية الحرب الباردة، والتى أدت إلى سقوط الاتحاد السوفيتى، والذى دشن نظام دولى أحادى الجانب، تقوده الولايات المتحدة، ربما أبرزها أن قوة بلاده أصبحت مرهونة إلى حد كبير بضعف الحلفاء قبل الخصوم، خاصة وأن حلفاء واشنطن نجحوا فى استنزاف القوة الأمريكية منذ ذلك الحين، بالقدر الذى لم يتمكن فيه خصومها، وعلى رأسهم روسيا – الوريث الشرعى للكتلة السوفيتية - من القيام بالدور نفسه، بسبب حالة الضعف التى باتوا عليها، وعدم قدرتهم إلى استعادة نفوذهم السياسى أو الاقتصادى أو حتى العسكرى منذ ذلك الحين.
ولعل التاريخ يساند الرؤية التى يتبناها ترامب إلى حد كبير، حيث أصبحت الولايات المتحدة أحد قطبى النظام العالمى، مع انهيار أوروبا سياسيا واقتصاديا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، بينما استأثرت بقيادة العالم، بعد الحرب الباردة، فى الوقت الذى كانت فيه القارة العجوز مازالت تبحث عن صياغة لتشكيل اتحاد قوى يجمع دول القارة، وهو الاتحاد الأوروبى، يمكن من خلاله القيام بدور دولى، عبر الدوران فى فلك واشنطن، والحصول على مباركتها، وهو ما ساهم بصورة كبيرة لاحتفاظ أمريكا بمكانتها على قمة النظام الدولى لما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن دون منافسة أو صراع يذكر.
خفوت الدور الأمريكى.. ترامب أدرك تنامى نفوذ حلفاءه على حساب واشنطن
إلا أن وجود واشنطن فى موقع القيادة العالمية فى العقود الأخيرة، ساهم بصورة كبيرة فى استنزاف، ليس فقط مواردها الاقتصادية أو العسكرية، ولكن أيضا نفوذها السياسى فى العديد من مناطق العالم، وهو ما بدا واضحا فى العداء الكبير الذى تكنه العديد من الدول التى استهدفتها واشنطن لخدمة أهداف المعسكر الغربى، تجاه الولايات المتحدة، وبالتالى لم تصبح محلا لثقة قطاع كبير من دول العالم، ناهيك عن الدور العسكرى، والذى كانت تستأثر به واشنطن فى كافة الصراعات التى خاضتها، حتى وإن جاء هذا الدور تحت شعار "التحالف الدولى"، بالإضافة إلى دورها فى حماية الحلفاء عبر الناتو، والذى تساهم فيه واشنطن بالدور الأكبر.
واشنطن احتاجت لشركاء لإبرام الاتفاق النووى
الدور الذى قامت به واشنطن فى خدمة المعسكر الغربى وأهدافه، ساهم فى تقوية شوكة الحلفاء على حساب واشنطن، وهو ما يظهر بجلاء فى الظهور الكبير لقوى أوروبية على الساحة الدولية، ربما لتلعب دور الضامن للولايات المتحدة، التى لا تحظى بثقة كبير فى معسكرات الدول المناوئة، وهو ما بدا واضحا على سبيل المثال فى الاتفاق النووى الإيرانى، والذى وقعته طهران مع مجموعة من القوى الدولية، وهم الدول الدائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى (فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين) بالإضافة إلى ألمانيا، وهو ما يعكس وجود قوى أخرى، سواء من الحلفاء أو الخصوم الذين بدأوا استعادة جزءا من نفوذهم، بدأت فى الظهور على للقيام بأدوار، ولو على استحياء، لمزاحمة الولايات المتحدة على قمة الساحة الدولية، بينما لم تعد واشنطن هى (الحاكم بأمره) فى مجتمع الدول.
يبدو أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أدرك حقيقة خفوت الدور الأمريكى على الساحة الدولية، عندما اتخذ عدة قرارات أحادية الجانب، دون الالتفات لرؤى حلفائه، على رأسها الانسحاب من الاتفاق النووى، وكذلك الانسحاب من معاهدة باريس المناخية، معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وغيرها، فى إشارة واضحة لرغبته فى احتواء دورهم المتنامى على الساحة الدولية، على حساب الدور الأمريكى، وتهميشه، بالإضافة كذلك إلى إقدامه على التفاوض مع كوريا الشمالية دون وجود أى أطراف دولية أخرى.
التهميش وحده لا يكفى.. كيف سعى ترامب إلى استنزاف الحلفاء؟
ولكن يبقى التهميش السياسى غير كاف لإزاحة منافسى واشنطن على قمة النظام الدولى، حيث اتجه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى انتهاج سياسة "الاستنزاف"، تجاه الحلفاء والخصوم على حد سواء، حيث اتجه نحو تصدير التحديات للحلفاء، عبر رفع الغطاء الأمريكى عنهم، اقتصاديا وعسكريا، حتى يكشف عجزهم، وينكفئوا على حل مشكلاتهم، وهو ما بدا واضحا فى القرارات التى اتخذها بفرض تعريفات جمركية على الواردات القادمة من الدول الحليفة، بالإضافة إلى تهديداته المتواترة بالانسحاب من الناتو، وكذلك قراره بالانسحاب من سوريا، والذى وضع قوات التحالف الدولى فى مأزق حقيقى فى ظل عجزهم عن تغطية الفراغ الأمريكى على ساحة المعركة.
ترامب وحلفائه
ولم تتوقف "حرب الاستنزاف" الأمريكية تجاه الحلفاء عند هذا الحد، وإنما امتدت إلى دعم واشنطن للمعارضة اليمينية فى الدول الأوروبية، مما ساهم فى تأجيج حالة عدم الاستقرار داخل العديد من دل القارة العجوز، بدت واضحة فى احتجاجات السترات الصفراء فى فرنسا، بينما أثمرت كذلك عن تنامى جرائم العنصرية، وأخرها كان الهجوم الأخير على مسجدين بنيوزلندا، ليصبح ما يمكننا تسميته بـ"الحصار" الأمريكى على الغرب الأوروبى، لا يقتصر على الساحة الدولية، وإنما امتد كذلك إلى الداخل، وهو ما يزيد من ثقل التحدى الذى يواجهونه فى المرحلة الراهنة.
حرب الاستنزاف.. ترامب يزيد الضغوط على كاهل خصومه
سياسة "الاستنزاف" الأمريكية لم تكن بعيدة عن اجندة ترامب فى التعامل مع خصومه الدوليين، وعلى رأسهم روسيا والصين، حيث سعى الرئيس الأمريكى إلى استهلاكهما عبر استنزافهما اقتصاديا، كما هو الحال مع الصين، والتى يسعى من خلالها تحقيق قدر من التوازن للميزان التجارى المختل بين البلدين، أو عسكريا، عبر إثارة القلاقل التى من شأنها وضع الدول على أهبة الاستعداد لحروب محتملة.
ترامب وبوتين
فلو نظرنا إلى الموقف الأمريكى الحاد من الأزمة الفنزويلية، والتلويح بخيار الحرب للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو، نجد أنه يمثل استهدافا لروسيا أكثر منه للنظام الفنزويلى، خاصة وأن رؤية الإدارة الحالية لا تقوم على التدخل فى الصراعات العسكرية، حيث نجحت واشنطن فى دفع روسيا نحو وضع مقاتلاتها على السواحل الفنزويلية، وهو ما يمثل مخاطرة كبيرة، فى ظل ابتعاد المسافة بين الأراضى الروسية والفنزويلية، وهو ما يضع ضغوطا كبيرة على كاهل النظام الروسى، خاصة وأن الخطوة تأتى فى أعقاب الانسحاب الأمريكى من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وهو ما قد يدفع موسكو لنشر صواريخها فى أوروبا فى المرحلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة