حادث كبير وصادم، لا يمكن الهروب من تلك الحقيقة، ومن المؤكد أن وراءه أسباب لا يعلمها أحد وقت وقوعه، تحتاج بالضرورة للتثبت والموضوعية والتقصى، بعيدًا عن الأهواء والاستخلاصات الاستباقية، ومن ثمّ فإن أية مبادرة لإعلان تلك الأسباب وادعاء اختراق الكواليس، خارج المنظومة الطبيعية للفحص والبحث وجمع المعلومات والقراءة وبدء التحقيقات، لا يمكن إلا أن تكون عملية تضليل مقصودة.. وللأسف هذا ما حدث فى واقعة اصطدام جرار قطار بالصدادات الخرسانية فى نهاية أحد أرصفة محطة مصر، صباح الأربعاء الماضى.
وقع الحادث فى التاسعة والنصف تقريبًا، وفى غضون دقائق نشطت مراكز بث غير معلومة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، تنقل صورًا ومقاطع فيديو لا يعرف أحد كيف خرجت من غرف التحكم والمراقبة، وحول تلك المواد البصرية انطلقوا يشيعون حِزمًا من المعلومات والتفسيرات والأحكام غير المنسوبة إلى مصدر طبيعى يرتبط بالحادث وسياقه، بل غير منسوبة إلى مصدر أصلًا، وكأن المراد من الأمر صناعة رأى عام استباقى، وترسيخ قراءة أولية للواقعة، بشكل ينسف كل القراءات التالية التى ستصدر لاحقًا عن الحكومة وجهات التحقيق، حتى لو كانت مدعومة بمعلومات وحقائق لا تقبل التشكيك.
100 مليون «مارك»
جلس مارك زوكربيرج، مؤسس «فيس بوك» والمدير التنفيذى للشركة العملاقة، أمام أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى، فى جلسة استماع قبل شهور على خلفية فضيحة تسريب بيانات ملايين المستخدمين لشركة «كامبريدج أنالتيكا»، مدّعيًا أنه منصة نشر ذات طبيعة صحفية، وليس شركة تقنية، لتحويل مسؤوليته إلى المحتوى المنشور وتجنب المسؤولية عن البيانات وإجراءات الأمان.
فى وقت تال، وقف فريق من محامىّ الموقع الشهير أمام إحدى المحاكم الأمريكية، يترافعون فى قضية تخص بث محتوى يحرض على الكراهية ويتضمن استغلالًا جنسيًا، مدعين أن «فيس بوك» شركة تقنية وليس منصة نشر، ومن ثمّ فإنه مسؤول عن الدعم الفنى وأمان المستخدمين وليس عمّا يبثونه من محتوى.
هكذا بمناورة بسيطة نجح مارك ورجاله فى الهروب من كل شىء، المسؤولية التقنية وضمان أمن المستخدمين، ومسؤولية المحتوى المنشور عبر المنصة الأوسع انتشارًا فى العالم، وما يتضمنه من انتهاك للقانون وممارسات عدائية تجاه المجتمع. وبين المناورة والتهرب من الاتهامين، ضاعت حقوق ملايين المستخدمين الذين أُفشيت أسرارهم، وحقوق ملايين آخرين ممن تأثروا بفوضى المحتوى غير المنضبط، وما يتضمنه من قيم سلبية وانتهاكات مباشرة للقوانين والأعراف الإنسانية.
فى مصر يبدو أننا نواجه 100 مليون مارك زوكربيرج للأسف، يتعاملون مع «السوشيال ميديا» بمنتهى اللا مبالاة، ويتهربون من أى التزام أو مسؤولية، قانونية أو أدبية، وبينما يُواصلون ممارساتهم الشائنة فى حق الجميع، وفى حق أنفسهم أيضًا، لا يمثلون أمام برلمان أو محكمة، وللأسف لا يردعهم وازع ولا يردّهم عن غيّهم قانون.
أصبح من المعتاد أن تجد قطعانًا تقتفى أثر قطعان على مواقع التواصل الاجتماعى، تتدحرج الشائعات فيما بينها ككرات الثلج، كلما دارت تضخمت والتصقت بها قطعان جديدة، لا يفكر أحدها فى التوقف والتدبر، أو البحث والتثبّت، أو التمهل حتى تنكشف الحقيقة أو تتوفر معلومة موثقة، والأفدح أنهم جميعًا يتعاملون مع شائعاتهم التى يُعاد تحويرها وإنتاجها لحظيًا، باعتبارها حقائق نهائية مؤكدة، هكذا بيقين يرتضى الجهل دينًا وقِبلة، أو بغشومية ثور خارج من «زريبة» مُظلمة إلى حلبة مصارعة محفوفة باللون الأحمر.. وبدفع من طاقة الجهل والغشومية لا يفكر أى منهم فى آثار وانعكاسات ما يلوكه من أكاذيب وروايات ملفقة، وحجم جنايته المحتملة على واقع وبلد وشعب كامل، سياسيًا واجتماعًا واقتصاديًا.
المشكلة أن طبيعة تقنيات الاتصال الافتراضية توفر متّسعًا للتخفى، على عكس وسائل الاتصال الجماهيرى التقليدية، التى تربط الجرس دائمًا فى رقبة صاحبه. فمن خلال مواقع «التواصل الاجتماعى» يُمكن لمجهول إطلاق معلومة أو شائعة، ليتعهدها مجهولون آخرون بالنشر والترويج، وبقدر ضئيل من الوعى بـ«سيكولوجية الجماهير» والأسس النفسية للشحن والتوجيه، وآليات صناعة «التريند» وترقيته لتصدر قائمة التداول. وهذا بالضبط ما حدث فى واقعة القطار، ويحدث دوريًا فى وقائع ومواقف متنوعة، ربما تصنعها الصدفة أو الإهمال أو سوء الإدارة، لكن تقف وراء ترويجها خلايا منظمة ومسارات عمل منضبطة وموجهة، والمفارقة أنها لا تخرج كلها عن كتائب الإخوان وميليشياتها الإلكترونية.
القطار يفرم «ورقة التوت»
منذ وقوع الحادث اندفعت بعض الصفحات والحسابات فى تدوين روايات متضاربة عن الحدث، استباقًا لكل معلومة أو تحقيق أو بيان رسمى، ومع توالى الإشارات، وتعدّد المشيرين، وتطوع عواطلية «السوشيال ميديا» بالشرح والتفسير وإكمال الصورة- غير الواضحة أصلًا وقتها- أصبحنا فى غضون دقائق قليلة أمام عشرات الروايات والتفاصيل المدفوعة بالأهواء.
ربما لم تكن سيارات الإطفاء قد وصلت لموقع الحادث بعد، ولم يعاين المعنيّون مسرح الواقعة، لكن خبراء «زريبة السوشيال ميديا» كانوا قد وصلوا إلى عمق الموضوع و«زيتونته ولغاليغه»، وأكملوا مهمتهم المقدسة فى التلفيق و«الهرى». فجأة أصبحنا أمام عشرات التفسيرات للحادث، وأمام تشكيك استباقى فى المعلومات والبيانات الرسمية، وفيما أعلنته جهات التحقيق. عشرات الادعاءات بزغت وانتشرت وتوسّعت، وتبادلها النشطاء الافتراضيون ككرة الثلج، دون معلومة أو دليل. عشرات الشائعات والحكايات لتفسير حادثة واحدة، يستحيل أن تقف وراءها كل تلك الأسباب أو تحيط بها كل تلك التأويلات، وهو ما يكفى منطقيًا لنسف كل الروايات المُختلقة لو فكّر فيها الآخرون قبل ترويجها، ونشف ما نبت على أطرافها من رسائل ملونة، كان واضحًا أنها تستهدف الدولة فى العمق، لكن الأهم أنه يُوجب دق ناقوس الخطر، للتوقف الجاد مع حالة الانفلات الشنيعة التى يرتع فيها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى، كما يرتع الثور الهائج فى حلبة مصارعة، أو فى حقل برسيم.
تداول المدفوعون بخطاب تغييب الوعى صورًا لطفل قالوا إنه أصيب فى الحادث، تبين لاحقًا أنها لطفل مصاب فى قصف إسرائيلى على قطاع غزة فى العام 2017. اقتطعوا مقطعًا من فيديو سابق للرئيس قبل سنتين يتحدث عن تطوير السكك الحديدية وتكلفتها، رغم أن الحادث لا يعود إلى خلل فنى أو مشكلة لوجستية أو تآكل للبنية التحتية للشبكة، وإنما إلى خطأ فردى اعترف به صاحبه بالصوت والصورة، لكنهم خرجوا للتشكيك فى الاعتراف والمزايدة على المتهم نفسه. وحول تلك الثغرات تبادلوا مقاطع فيديو لمشاجرة السائقين والحادث، وعلقوا على تفاوت التوقيت عدة دقائق بين المشهدين، دون تدقيق أو التفات إلى احتمال أن يكون الأمر مرتبطًا باختلاف التوقيت فى ساعتى الـDVR بغرفتى التحكم اللتين تديران الأرصفة وحركة الورش وجرارات المناورة، كما أشاعوا أخبارًا مربكة عن نقص فى الدم بالمستشفيات، رغم تصريحات وزيرة الصحة التى أكدت توفر الدم ونقل 2000 كيس إلى المستشفيات التى استقبلت المصابين، وتداولوا أيضًا صورًا وفيديوهات قديمة لمتظاهرين بملابس صيفية فى ميدان التحرير، محاولين توجيه الناس لنزول الشارع، ونشطوا فى تداول أخبار عدد من حوادث السير العادية للإيحاء بأن مناخًا من الانهيار يضرب أوصال الدولة. بدا الأمر بكامله حالة من الفوضى الممنهجة، تقف وراءها مراكز منظمة تنتقى وتُبرز وتروج نوعية بعينها من الأخبار، بغرض خلق شعور باليأس والنقمة، وتصدير صورة سوداء لا تنحاز لمصالح الناس فى الحقيقة، ولا تهتم بالضحايا فى محطة مصر أو غيرها، وإنما تحاول اختلاق وتغذية شعور أسود فى نفوس الناس، وكأنها خطة كاملة للحرب النفسية!
جهل وسوء نية
ما كشفه الحادث الأخير، وغيره من وقائع شبيهة تفرض على الجميع الانحياز إلى الوعى العميق والمعلومة الثابتة، أن حالة مدهشة من الاستسهال والبجاحة وانعدام اللياقة والمسؤولية أصبحت تسيطر على فضاء «السوشيال ميديا» فى مصر، يقودها انفلات مزعج يتأسَّس على جهل أو سوء نيّة، لكنه فى الحالين يستند فى فجاجته واستمرائه لتلك الحالة إلى القصور القانونى فيما يخص ضبط المناخ العام، وترشيد حالة الفوضى المتفشية عبر منصات التواصل، وإلى يقين ضمنى يُعبّئ صدور كل الثيران الهائجة بأنهم سينجون بشائعاتهم مهما بلغ مداها وتضخّم أثرها الفادح، وأن يد القانون قصيرة وعاجزة عن مواجهة الجهالة والأهواء.
كان طبيعيًّا وسط هذا المناخ المُنفلت، أن تتواتر البيانات والمعلومات الرسمية دون أن تلقى اهتمامًا من ساكنى «الزريبة»، فقد اكتفوا بشائعاتهم ومصارعتهم المحتدمة وسباقهم المشتعل لابتكار مزيد من التخريجات المجانية. كانت البيانات تتدفق بينما المُضلَّلون والمُضلَّلون يمضغون الأكاذيب بيقين وإصرار، وكأنهم فى معركة مباشرة مع المعلومة الموثقة، فى خصومة عنيفة مع العقل، وفى عداء مباشر مع الدولة ومؤسساتها.
لم يرتدع أى من كائنات «الزريبة» عن نطح حائط الأكاذيب، والتوقف الجاد أمام ما أوردته البيانات الرسمية لوزارتى النقل والصحة وهيئة السكك الحديدية والنائب العام، أو تصريحات المسؤولين فى الإسعاف وبنوك الدم وقطاع النقل، أو شهود العيان من العاملين والمسعفين ومن ساهموا فى إنقاذ الضحايا، ما أكد أن الاحتدام والارتباك وفوضى الدقائق الأولى لم تكن محاولات صادقة ومخلصة للبحث عن معلومة، وإنما كانت سَيرًا مُباشرًا- مع سبق الإصرار والترصُّد- باتجاه الكذب والتدليس والتضليل والشحن العام وإشاعة البلبلة، والتشفّى والشماتة أيضًا للأسف، كأنهم يتداولون فى مصيبة بلد آخر، أو كأن شعبًا عدوًّا يُطل على مصر من ثقب نواياه السيئة.
المؤسف أن كثيرًا من المغالطات تردّدت عبر صفحات وحسابات صحفيين وإعلاميين، ظلّت عشرات الصور والروايات المهتزّة والمتضاربة تتدفق دون تثبُّت، دون حياء، ودون احترام للقواعد والأعراف المهنية التى تُلزم بنسبة المعلومة إلى مصدرها الطبيعى، أو تمنع نشر صور الضحايا والمشاهد العنيفة، والتتبُّع الجاد للتحقّق منها ومن صدق المصدر، والتروّى فى الأمور التى تمسّ السلام الاجتماعى والأمن القومى والمصالح الاستراتيجية العليا. كل هذا جرى تجاهله من محترفين، بالقدر الذى تجاهلته قطعان «السوشيال ميديا»، ولم يسأل أحدٌ نفسه عن حجم الأضرار التى قد يتسبّب فيها، أو عن الأثر الفادح لانفجار الأكاذيب والاختلاقات، الذى قد يفوق، بل بالتأكيد سيفوق، الأثر الحقيقى لحادث القطار.
كتائب «الهرى المقدس»
يصعب افتراض أن قطعان السائرين فى تظاهرة «الهرى المقدس» لا يعون أثر الشائعات والروايات المتضاربة، وأضرار عشرات التفسيرات التى يُشيعونها دون معلومة أو دليل، كما يصعب افتراض أنهم لا يعون حجم الآثار الاقتصادية والسياسية المترتبة على تلك الموجة من التخويف وإشاعة الفوضى والإحباط، فى بلد تبدأ السياحة فيه رحلة قاسية للتعافى من آثار سنوات عجاف، ويناضل لاجتذاب مزيد من الاستثمارات الخارجية المباشر، ولكن لو افترضنا أن قطاعا من العاديين لم يلتفت لتلك الأمور، فماذا عن النخبة من النشطاء والسياسيين والأكاديميين والمثقفين والإعلاميين، الذين ساروا فى زفّة تتقدّمها ثيران خرجت للتو من «زريبة» وتسير بثبات إلى «زريبة» أخرى.
من المؤكد أن حاجة الناس للمعرفة، ونهمهم للمعلومات المتصلة بالشأن العام، قد يكونان سببًا واقعيًا وراء تعجل البعض وعدم تحليهم بالصبر، انتظارًا للمعلومات الموثقة والبيانات الرسمية المدققة، وتلك الثغرة تحديدًا ينفذ منها أصحاب القراءات الاستباقية المصنوعة لأهداف سياسية، أو على أرضية الأجندات الخاصة المرتبطة بحالة عداء يحملونها تجاه النظام، لكن تورط قطاعات واسعة من العاديين الذين لا يحملون أية أجندات فى هذا المسار، يُحوّل استهداف النظام إلى استهداف للدولة، ويُطور أهداف ماكينات التضليل النشطة لتنال من المؤسسات لا الأفراد، من الوطن لا المواطنين فقط. ورغم أننى لا أستسيغ تفسير الأمور دائمًا وفق نظرية المؤامرة، مع إيمانى العميق بأنها واقع قائم لا فكاك منه ولا سبيل لنفيه، إلا أن التعاطى المُشين والمزعج مع الحادث منذ اللحظات الأولى لوقوعه يجوز تفسيره وفق تلك النظرية للأسف، لمن يُحب تفسير المواقف الغريبة لأهل «زريبة السوشيال» وقادتها الخفيون حركيًا والظاهرون تمامًا فى محتوى خطابهم!
فى الحقيقة لا يمكن القول إن ملايين السائرين فى زفّة الشائعات محسوبون على جماعة الإخوان، هذا أمر يشتمل على تزيُّد واضح بالتأكيد، لكن لا يمكن أيضًا نفى أن الشرارة الأولى فى ذلك اليوم الملىء بالأكاذيب تحيطها الشبهات من كل جانب، انطلقت من بندقية إخوانية، ليتلقّفها قطيع «السوشيال ميديا» الباحث عن جنازة «علشان يشبع فيها لطم»، وليس من المصادفة أن يتزامن انطلاق الشائعات مع ترويج صفحات الإخوان وموقع رصد وقناتى الشرق ومكملين لها بكثافة وإلحاح، واستباقها بدعوات للصفير وقرع الأوانى تحت شعار «اطمن أنت مش لوحدك».. هنا يمكن الالتفات لنظرية المؤامرة بقدر من الاعتبار، إذ يبدو أن سلسلة طويلة من اللجان الإلكترونية تتولّى إطلاق الرسائل وتبنّيها، واستغلال محدودية الوعى والمعرفة لدى القطيع لتوجيهه نحو صنع سحابة عريضة من التفاصيل المتشابكة والمتضاربة، وتوليد متوالية من الروايات، وغابة متداخلة الفروع من التفسيرات المُغذّية لسوء الظن واتخاذ مواقف عدائية متحفزة ومضادة لروايات الدولة والمؤسسات الرسمية، بغرض تفكيك مسارات التواصل وخطوط الاتصال بين الدولة والمواطنين، وتعميق حالة القطيعة والشكّ وتبنّى الروايات المضادة لكل ما هو رسمى.
تلك الحالة من الاصطياد فى الماء العكر تحتاج تحرُّكًا جادًا وعميقًا من الحكومة، لبناء جسور للثقة والتواصل الفعّال مع المواطنين غير الموجَّهين، وغير المنحازين لرؤى وتوجهات عدائية، والرد على ماكينات الشائعات وتفكيك استراتيجياتها وآليات تلاعبها بالوعى الجمعى، والأهم من ذلك أن تعمل بجدية وحسم لضبط الانفلات المُتمدِّد فى «زريبة السوشيال ميديا»، وضرب ثقافة القطيع التى تُوظّفها اللجان الإلكترونية وميليشيات توجيه الرأى العام، للنيل من الدولة والروايات الرسمية للوقائع والأحداث.
لنتوقع الأسوأ فى الأمر.. ستستمر حالة الشحن والتوجيه، ستواصل ماكينة الشائعات العمل، وستنجح الميليشيات الإلكترونية فى البقاء فوق ظهر القطيع، وقيادته فى الوجهات التى تحقق أهدافها ومصالحها، تبدو تلك الأمور منطقية إن كنا نُسلّم بأن استهدافًا عميقًا وغير برىء يحيط بالدولة ومؤسساتها، فالمنطق يقطع بأن الحملات الممنهجة وجهود تغييب الوعى لن تتوقف، ولكن ماذا عن الخطط المضادة؟ هنا يحتاج الجميع للتوقف الجاد، المؤسسات عليها تطوير أدوات عملها، والأفراد عليهم الاحتكام للعقل وفرز وتقييم الرسائل المتشابكة فى غابة «السوشيال ميديا»، إذا كانوا يبحثون عن الوعى ولا يقفون راضين فى دائرة «القطعان». ما الذى يمنعنا من قطع الطريق على تلك الممارسات بقانون واضح وإجراءات حاسمة، وبثبات واتزان وانتظار للمعلومة الموثقة من مصادرها الطبيعية؟!
القانون وجرائم «السوشيال ميديا»
مؤخرًا أقر مجلس النواب قانون مكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات، وصدّق عليه رئيس الجمهورية، لكنه لم يُفعّل بشكل جاد وحقيقى حتى الآن، ورغم أنه يتضمّن نصوصًا واضحة فيما يخص الممارسات المُنفلتة على مواقع التواصل الاجتماعى، وعقوبات رادعة لبعض المخالفات، لا أعرف، فى ضوء تنامى الانفلات يومًا بعد آخر، هل تلك النصوص كافية لصد كتائب تغييب الوعى أم يمكن أن تتحايل عليها القطعان وقادتها؟ وهل هى كافية لتنظيم ممارسات المنصات الاجتماعية ذات الطبيعة الإعلامية؟ أم نحتاج قانونًا خاصًا لضبط آليات تداول المعلومات والأخبار المتعلقة بالشأن العام والأمور الماسة بالأمن القومى؟ وهل ستنجح مؤسسات إنفاذ القانون فى إجراء مواده عمليًّا ووضعها موضع النفاذ وسط تلك الغابة المليونية من القطعان؟ أم ستظل الثغرات قائمة والانفلات عصيًّا على السيطرة وفى حاجة لآليات أكثر اتّساعًا وشمولًا للوصول لحالة الضبط؟
جسد حادث قطار محطة مصر حجم التضليل الذى يُعبئ منصات التواصل الاجتماعى، وضخامة ماكينات الشائعات النشطة فى ذلك الفضاء المفتوح، وبينما تعاملت الجهات المعنية مع الحادث بوتيرة سريعة وفق الضوابط القانونية والفنية، يظل انفلات قطعان «السوشيال ميديا» قائمًا ومُتجاوزًا كل الأطر ومحدِّدات الأمن القومى وضوابط المصلحة العليا، ما يؤكد أن الحريق على ضخامته وحجم آثاره، قد يكون أقل خطرًا من انفجار «زريبة السوشيال ميديا».. وقد أثبتت التجربة العملية حاجتنا الماسّة للتحرك، حتى لا تطيح الثيران الهائجة، سيّئة النيّة أو الموجَّهة بغير وعى–بكل شىء فى هذا البلد، تورطًا فى خطاب الجماعة الإرهابية، وكل جماعات تغييب الوعى، وقربانًا للجهالة الواضحة والعداء المستتر وإدمان «الهرى المقدس».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة