قضت المحكمة بحبس عبد الحميد كامل أفندى صاحب جريدة «حمارة منيتى» بالحبس ستة أشهر، وحبس حسين توفيق أفندى صاحب جريدتى «البابا جللو المصرى» و«الأرنب» بالحبس أربعة أشهر لانتهاكهما حرمة الآداب فى حق فضيلة المفتى.
صدر الحكم فى مثل هذا اليوم «6 فبراير 1904»، وكان «المفتى» الذى تم انتهاك حرمة الآداب فى حقه هو الشيخ الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية منذ يوم 3 يونيو 1899 وحتى رحيله يوم 11 يوليو 1905، حيث قاما بإشهار رسمه وتصويره واقفا مع امرأة بلباس الرقص بحالة شائنة، وحسب أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديوى عباس حلمى الثانى فى الجزء الثالث من مذكراته «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة»، وكان معاصرا للحدث: «تم القذف فى حقه بأنهما أسندا إليه الكفر وتحليل المحرمات، وغير ذلك من الأمور الموجبة احتقاره عند أهل وطنه».
دارت وقائع القضية فى المحاكم، لكنها كانت انعكاسا لصراع حاد يدور خارج أروقة الحكم، فالخديوى عباس حلمى الثانى بلغ فى غضبه من محمد عبده مرحلة حادة، وكان يخطط لفصله من منصبه لولا رفض اللورد كرومر المعتمد البريطانى لهذه المخططات، وحسب شفيق فى مذكراته: «حرض العلماء عليه، فرموه بأنه وهابى كما رموه بالزندقة لعدم أخذه بآراء شيوخ المذاهب، فرد عليهم الشيخ بما يدحض فريتهم».
لجأ الخديوى عباس إلى تأليب الصحف ضد الإمام، وأقدمت بعض الجرائد على تنظيم جملة هجوم كاسحة ضده ومنها جريدتى «اللواء» و«الظاهر»، وانضمت لهما جرائد «حمارة منيتى» و«البابا جللو»، و«الأرنب»، وشنت هذه الصحف حملتها بسبب فتوى صدرت من الشيخ، وكانت ردا على سؤالين هما، يوجد أفراد فى هذه البلاد «الترنسفال» يلبسون البرانيط لقضاء مصالحهم وعوائد الفوائد إليهم، فهل يجوز ذلك؟، والسؤال الثانى: أن ذبحهم «أى نصارى الترنسفال» مخالف، وذلك لأنهم يضربون البقر بالبلط، وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية، والغنم يذبحونها بغير تسمية أيضا، هل يجوز ذلك؟.
أفتى «المفتى» بالإباحة فى الحالتين، وحسب المجلد الأول من «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف محمد رشيد رضا «الهيئة العامة للكتاب - القاهرة»: «من هداية السنة السنية ما تبين به أن الإسلام لم يقيد أهله بزى مخصوص لأن الزى من العادات التى تختلف باختلاف حاجات الشعوب وأذواقهم وطبائع بلادهم فهو مباح لهم، فلم يكن من حكمة هذا الدين العام لجميع البشر أن يقيد شعوب الأرض كلها بعادة طائفة منهم كأهل الحجار أو غيرهم، ولهذا لبس النبى، صلى الله عليه وسلم، من لبوس النصارى والمجوس والمشركين، كما ثبت فى الأحاديث الصحيحة، ولذلك ترى للمسلمين فى كل قطر زيا يشاركهم فيه، غالبا من ليس من دينهم بل أكثر لبوسهم مأخوذ عن النصارى برمته، ومنه زى العثمانيين الرسمى».
اشتهرت فتوى «الإمام» فى السؤالين باسم «الفتوى الترنسفالية»، وأعد الخديو عباس خطة محكمة للهجوم عليها ولصاحبهما، ويذكر محمد رشيد رضا، أن الشيخ محمد توفيق البكرى نقيب الأشراف جاءه بنفسه وأخبره أن أعد الآن حملة قوية من أشهر كتاب مصر وعلمائها للطعن فى الفتوى الترانسفالية، وأن صاحب جريدة حديثة العهد غير مسلم أخذ منه سبعمائة جنيه دفعة واحدة، وقال «البكرى» لـ«رضا»، أن الخديوى لا يكلفك أن تطعن على الشيخ مع الطاعنين، لأنه يعلم كما نعلم أن هذا مما لا سبيل إليه معك، وإنما يكلفك السكوت عن عنه فقط، فإذا كنت ترضى بهذا فأفندينا مستعد لمقابلتك.
استخدم خصوم الإمام كل الألاعيب، ولجأوا إلى وسائل غير شرعية متنوعة كالحالة التى أدت إلى سجن مرتكبيها، كما حدث يوم 6 فبراير 1904 مع عبد الحميد كامل أفندى، وحسين توفيق أفندى، وبالطبع كان فى المعركة «التقليديون» الذى يحاربون الجديد الذى يمثله محمد عبده، غير أن المعركة لم تخلُ من «الانتهازيين»، ويدلل رشيد رضا على ذلك بذكره قصة الشيخ محمد الشربتلى الذى كان يحرر معظم جريدة «الظاهر» لصاحبها محمد بك أبو شادى المحامى، وكان «الشربتلى» طالب علم ذم دخل جماعة الدعاة إلى عقيدة وحدة الوجود وأنشأ جريدة اسمها «النهج القويم ، كانت هى التى كتبت أن الشيخ محمد عبده صرح فى درس التوحيد الذى كان يلقيه فى الأزهر، بنفى توحيد الله تعالى، فحاكمته النيابة العامة على هذا وحبسته، ولما دعاه أبوشادى بك إلى الكتابة فى التشنيع على الفتوى فى جريدة الظاهر وافق هوى فى نفسه، وهو لم يكن صاحب مبدأ ثابت، بل كان يكتب بالأجرة لجريدتين أو أكثر من الجرائد الأسبوعية التى تعرف بالساقطة فيرد فى بعضها على ما كتبه هو نفسه فى الأخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة