لست أشك ولو للحظة واحدة، أن الفنان الكبير الراحل حسين بيكار كان موسيقارا فى الأساس وضل الطريق إلى الفن التشكيلى، لكن الموسيقى أبت أن تتركه، فانسابت فى ريشته بانسجام تام، للوحاته إيقاع واضح، ولألوانه هارمونى نادر، تتصاعد وتتراقص، تتمايل وتغرد، عذوبة النهاوند تجدها، شقاوة البياتى تجدها، صوفية النكريز تجدها، أسى الصبا تجده، وسلطنة الرست حاضرة وبقوة.
أثناء-الكشف-عن-مكان-الفرسة-القديم
كل الأبحاث التى تناولت منجر الفنان الكبير حسين بيكار ناقصة، فأى بحث لا يتناول أثر الموسيقى فى فرشاته لا يعول عليه، يعرف الجميع أن حسين بيكار فنان تشكيلى كبير، يعرفون عنه بورتريهاته التى يقترب فيها جمال الملامح الإنسانية من الكمال، يعرفون عنه لوحات أهل مصر الحقيقيين، الفلاحون الصعايدة، النوبيون، يعرفون عنه مسيرته الفنية التى حفلت بها كتب تاريخ الفن، لكن قليلين يعرفون عنه الأصل، وأصل بيكار من وجهة نظرى هى الموسيقى، هذا المنهج الذى التزمه طوال حياته، هذه الروح التى سرت فيه ولم تنطفئ حتى الآن، ومن هنا أتى هذا البحث الذى حاولت فيه أن أقترب من هذا العالم السرى المعشوق، أن أسير إليه «سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس» كما يقول الحلاج، حتى وصلت إليه بعد مشقة كبيرة.
بيكار الموسيقار المفقود
كان بيكار رحمه الله جزءا كبيرا من تاريخ الموسيقى، لكننا للأسف ضيعناه كما كدنا أن نضيعه فى الفن التشكيلى لولا الراسخون فى الفن الذين بشروا به واعتنوا بمنجزه، وهنا لا أدعى أننى حاولت أن أنقذ هذا التراث الراقى لفنان حقيقى، لكنى فحسب حاولت أن أقف على أطلال هذا الإرث، ولا أعرف هل أشكر الصدفة أم ألعن الظروف؟ وهذه أسباب هذا التساؤل.
أثناء-فحص-العود
فى الكثير من الأبحاث والمقالات تأتى الإشارة إلى ذكر ميول الفنان الكبير حسين بيكار الموسيقية، ومن حين لآخر نصادف وجود تسجيل نادر لبيكار وهو يعزف أو يغنى، وفى المجالين تبرز موهبة بيكار الموسيقية العملاقة، صوت شجى وغناء سليم وإحساس آسر وانضباط لحنى ومقامى لا يتأتى إلا لعلماء الموسيقى، ومن حين لآخر تسمع من أحد متخصصى تاريخ الفن أن صوت بيكار كان شبيها بصوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب فى شبابه، وأنه كان كثيرا ما يحيى الحفلات مع أصدقائه، بل كان يتكسب منها، كما يتكسب من تعليم العزف على آلة العود للراغبين قبل أن يحترف الفن التشكيلى، فأين كل هذا من التوثيق؟ بل أين آلات حسين بيكار التى عزف عليها طوال حياته؟
عالم ومجرب وحالم
يزداد التساؤل مرارة حينما تعرف أن بيكار لم يكن عازفا عاديا، بل كان عازفا بارعا، وليس لآلة العود فحسب، بل لمعظم الآلات الوترية الشرقية، مثل البزق والطار وغيرهما، بل والأنكى من هذا أن تعرف أنه لم يكتف بالعزف على الآلات المتاحة فحسب، بل حاول اختراع آلة موسيقية جديدة تكون على قدر معقول من الشرقية والعذوبة فى آن، وفى هذا حاول مع صديقه الدكتور عبداللطيف الجوهرى وربما مع صديقه الآخر «توفيق الألايلى» أشهر عازفى البزق فى مصر، صناعة عدة آلات منها «آلة» أسموها الطنبورية، وآلة أخرى أسموها «الجوهرية» نسبة إلى الدكتور عبدالطيف الجوهرى، وكان صانع العود الشهير «فتحى أمين» هو المنفذ لآلة الجوهرية كما هو مذكور فى سيرته الذاتية التى نشرها ابنه «سيد فتحى أمين» على موقعه على الإنترنت؟ فأين آلة الجوهرية؟ لا نعرف، وأين آلة «الطنبورية»؟ لا نعرف، ومن هو الصانع الذى نفذ آلة الطنبورية؟ لا نعرف، وأين آلة العود الشهيرة التى كان يعزف عليها طوال عمره والتى خلدها الفنان أحمد صبرى فى أحد أشهر البورتريهات التى رسمها لبيكار؟ لا نعرف أيضا؟ وهل صحيح أن هذا العود صنع خصيصا لهذا البورتريه الشهير كما يدعى أحد الباحثين؟ لا نعرف.
جانب-من-آلات-بيكار-معروضة-بالجامعة-الأمريكية
رحلة البحث عن آلات بيكار
كثرت الأسئلة ولا من مجيب، وكما قلت لم يوثق أحد من قبل لحياة بيكار مع الآلات الموسيقة، ولا نجد عن هذه الآلات ما يسمن من جوع، وهو ما فتح الباب للكثير من المدعين الذين يكتفون فى مضمار البحث المضنى ما يشاع على صفحات الإنترنت، فالادعاء سهل، والافتراء سهل أيضا، للأسف مات الفنان حسين بيكار وترك زوجته وحدها بعد أن سافرت ابنته الوحيدة «بالتبنى» إلى إنجلترا لتلقى العلاج، وتزداد المآسى حينما تعلم أن تلك السيدة الفاضلة كانت على قدر كبير من الطيبة لدرجة جعلتها تعطى العديد من لوحات الراحل للعديد من المدعين الذين كانوا يأتون إليها مدعين أنهم سيقيمون معرضا للفنان الراحل، بينما كان الغرض الرئيسى لهذا الاستحواذ هو السرقة فحسب، والأزمة تنفجر حينما تعلم أن مقتنيات هذا الفنان العظيم كادت أن تذهب إلى غير رجعة حينما كادت أن تذهب إلى بنك ناصر الاجتماعى الذى كان بدوره سيعرضها فى مزاد علنى ليستولى عليها كل من هب ودب، لكن الحمد لله الذى حفظ تلك المتعلقات وحفظها من الضياع، بقدرة قادر.
الدكتور-عبد-اللطيف-جوهر
أين هى آلات الفنان الجميل حسين بيكار؟ كان هذا هو السؤال الذى طرحته على السيد «أحمد عبدالفتاح» رئيس الإدارة المركزية للمتاحف والمعارض بوزارة الثقافة، وسبب توجهى بالسؤال إلى «عبدالفتاح» كان لمعرفتى المسبقة أن العناية الإلهية أنقذت بعض متعلقات بيكار قبل أن يمنحها صاحب البيت الذى عاش فيه بيكار لبنك ناصر الاجتماعى بحسب القانون، وكانت إجابة عبدالفتاح صادمة، حيث قال لى إن القطاع لم يحصل على أية آلات موسيقية من بيت الراحل، وكل ما حصل عليه بضعه لوحات واسكتشات فحسب، وعلى حد قوله فقد فقدت أشياء كثيرة، ولولا يقظة وزير الثقافة السابق عماد أبوغارى وسرعة استجابته لنداء الدكتورة سمية رمضان أستاذ النقد الأدبى وصديقة عائلة بيكار لضاع كل شىء، وهنا كان واجبا على أن أتوجه إلى «أبوغازى» بالسؤال عن آلات بيكار الموسيقية، فقال لى إنه لم يرها حينما حضر إلى بيت بيكار قبل أن يتصرف بنك ناصر الاجتماعى فى محتويات البيت، والإجابة ربما تكون لدى الدكتورة سمية رمضان، فسألتها: فقالت أيضا إنها لا تعلم على وجه اليقين أين الآلات وربما ابنته «راندا» التى تقيم فى لندن على علم بها، فاستأذنتها فى أن أحدثها وهاتفتنى بعد يومين لتمنحنى رقمها فى لندن بعد استئذانها، وحينما هاتفتها قالت لى إن بعضا من آلات بيكار الموسيقية منحتها إلى الجامعة الأمريكية لكى تحافظ عليها، لكن تفاصيل هذه القضية كاملة مع السيد كريم علاء الذى يقيم فى الكويت صديق عائلة بيكار الذى أشرف على هذه المهمة حينما كان فى القاهرة، ثم اتصلت بالأستاذ «علاء» ليخبرنى أن جميع الآلات المتبقية فى المبنى الجديد للجامعة الأمريكية بالتجمع الخامس، لكنه لا يعلم فى أى جناح ولا يعلم أيضا هل هى متاحة للعرض أم فى المخازن.
وجدتها .. وجدتها
هنا اطمأن قلبى، فبرغم أنى كنت أتمنى أن تكون تلك المقتنيات فى مؤسسة مصرية خالصة، لكنى فى كل الأحوال غاية فى الامتنان للجامعة الأمريكية التى حفظت هذه الآلات من الضياع، ومن هنا بدأت التواصل مع السيدة دينا راشد من إدارة الإعلام فى الجامعة الأمريكية التى أكدت أن الآلات بحالة جيدة فى فتارين العرض فى المبنى الجديد للجامعة الأمريكية، ورحبت بزيارتى للجامعة لرؤية هذه الآلات وتوثيقها، فذهبت.
بداية الكشف
هو ذات العود الشهير الذى يزين أجمل لوحات بيكار وأجمل صوره الفوتوغرافية، والذى من المؤكد أن بيكار أمسك به حينما كان الفنان الرائد أحمد صبرى يرسم له أشهر بورتريهاته وأشهر لوحة فنية توثق لأعواد تلك المرحلة، حيث يتشابه العود المحفوظ بالجامعة الأمريكية مع العود الموجود فى لوحة صبرى كثيرا، فنرى ذات شكل «الرقمة»، وهى قطعة الخشب التى توضع ما بين مربط الأوتار والشمسية، كما نرى نفس «الحجاب»، وهو قطعة الخشب الموضوعة بين رقبة العود وصدره، كما نلحظ ظلالا من زخارف الرقبة فى اللوحة، ونفس شكل خشب القصعة الواضح من جزء من الصورة، حيث يمكننا أن نلحظ بسهولة نفس تراتبية وضع أضلاع الخشب ما بين اللون المائل للاصفرار واللون المائل للبنى، ومن وجهة نظرى فإن هذا التشابه الكبير يرجح أن يكون عود «الجامعة الأمريكية» هو نفس العود الموجود فى اللوحة، لكن للأسف قد تمادى أحدهم وادعى أن هذا العود صنع خصيصا لهذا البورتريه، وهو الأمر الذى جعل زيارة متحف الفن الحديث واجبة لكى أتحقق بنفسى من تاريخ رسم تلك اللوحة، وهناك وجدت أن تاريخ اللوحة يعود إلى منتصف الثلاثينيات وبالتحديد فى سنة 1934، أى بعد حدوث نقلة نوعية فى صناعة الأعواد تأثرا بمؤتمر الموسيقى العربية الشهير الذى عقد فى 1932 والذى شهدت آلة العود بعده تغيرا كبيرا فى طول الوتر ووضع الدساتين «العلامات» على رقبة العود، لكن هل عود «بيكار» يعود لنفس الفترة كما يزعم زاعم؟
جانب-من-آلات-بيكار-الموسيقية-قبل-ذهابها-للجامعة-الأمريكية
الإجابة حملها ملصق بداخل العود يؤكد أن هذا الكلام خيال محض، فبرغم أن الملصق الأصلى للعود غير موجود، لكن ما هو موجود يكفى لنفى هذه الادعاءات من أساسها، فيحمل العود ملصقا يثبت تصليحه فى سنة 1920 على يد الصانع الشهير عبدالعزيز الليثى أحد أشهر صناع العود فى أوائل القرن العشرين، ومعنى أن هذا العود خضع للإصلاح فى 1920 لدرجة أن يضع المصلح ملصقا يثبت به حقه المعنوى هو أن صناعته كانت سابقة على هذا التاريخ بكثير، وهو أيضا ما يثبت أن الادعاء بأن هذا العود ينتمى إلى فترة الثلاثينيات ادعاء كاذب، وفى الغالب فإن هذا العود صنع فى أوائل القرن لما سنبينه لاحقا.
أول إجابة عن أول سؤال والخاصة بتاريخ صناعة هذا العود تؤكد أننا لا نستطيع أن نثق فيما يتداوله البعض من ادعاءات على مواقع الإنترنت، أو فيما يسمى بالأبحاث العلمية والتى تفتقد إلى معنى البحث وقيمة «العلمية» فى آن، فقد كان العود متاحا لمن يبحث لكن للأسف البعض يستسهل الادعاء على البحث فتكون النتائج كارثية.
فى رحاب العود الشهير
أستطيع أن أؤكد أن «عود بيكار» هذا من أجمل الأعواد الباقية من هذا العصر، كما أستطيع أن أؤكد أيضا أنه يحمل شهادة حية على حرفية بيكار وتمكنه من العزف على آلة العود ووقوفه على أسرارها، فقد عدل بيكار مقياس وتر العود ليمنحه حرية أكبر فى الحصول على النغمات المرادة، وهذا ما دل عليه وجود آثار لمربط الأوتار فى وجه العود «الفرسة» بعد وضعها الحالى بحوالى 2 سنتيمتر، بما يعنى أن وتر العود تم تقصيره 2 سم، لماذا؟
تفصيل-لشكل-الفرسة-والرقمة
على الوضع القديم كان طول وتر العود حوالى 64.8 وإذا علمنا أن طول رقبة العود كان حوالى 20.9 ندرك أن طول الوتر كان أكبر من ثلاثة أضعاف طول الرقبة بحوالى 2.1 سم، وهى ذات عدد السنتيمرات التى اختصرها بيكار فيما بعد ليصبح طول الوتر ثلاثة أضعاف طول الرقبة مضافا إليه 1 مم فقط، ليمنحه هذا التقصير المتعمد حرية أكبر فى العزف على العود.
وجه-عود-بيكار
من هذا أيضا ندرك أن آلية صناعة هذا العود تتشابه مع آلية صناعة أعواد أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين التى وثقها المرحوم كامل الخلعى فى كتابه المرجعى «الموسيقى الشرقى» حيث قال «إن طول الوتر الذى رأيناه هو 64 سم وطول الرقبة 19.5، فقد كان صناع هذا الزمان مغرمين بالأوتار الطويلة نسبيا والتى تمنح صوت العود حلاوة ورصانة وفخامة يتميز بها العود الشرقى، وحينما أزاد الصانع فى طول الرقبة بمقدار حاول أن يزيد فى طول الوتر بقدر المستطاع ليحافظ على شخصية العود، وبشكل عام فإن العود على قدر مقبول من الصلاحية، وبالطبع يتطلب ترميما عاجلا ومعالجة دقيقة للأخشاب ولحام عدة كسور فى جسده، لكن بشكل عام فإن العود فى حالة جيدة وما به من عيوب أمر متوقع من عود توفى صاحبه من 17 عاما.
بيكار-محتضنا-عوده
أقصى عرض لوجه العود هو 33 سم، أما طول الوجه من أسفل الرقبة وحتى الكعب فهو 52.2 سم، وبذلك يصبح الطول الكلى للعود حوالى 73.1 سم، أما المسافة من مركز الشمسية إلى الكعب فهى 31.1 سم، أما عدد أضلاع قصعة العود فهو 17 ضلعا بعرض يصل إلى 2.8سم، وطول يصل إلى 67 سم، ويتميز هذا العود بأن وجهه كغالبية الأعواد فى هذا الوقت من خشب الموسكى، والرقمة من العاج المطعم بالأبانوس، أما الحجاب فعلى شكل زخارف نباتية من العاج المطعم بالأبانوس، وكذلك سطح الرقبة «المسترة» وكذلك سطح الفرسة، ويتميز هذا العود كغالبية أعواد هذا العصر أيضا بوضع ما يسمى بـ«لعراقة» وهى عبارة عن شريط من الجلد يوضع فى آخر العود فى المنطقة الواصلة بين القصعة والوجه، وذلك لحماية وجه العود من «عرق» العازف الذى يمسك بالعود لفترة طويلة، وهى فى هذا العود من الجلد الأحمر المزركش بالأسود.
عن «الجوهرية» و«الطمبورينا»
دلت تلك هذه التغيرات التى أحدثها بيكار فى عوده على أنه كان عالما بالموسيقى وتراكيب الآلات والعلاقة بين أطوال الأوتار وتوزيع النغمات على سطح العود، وما يدل على هذا أيضا هو ما تناقل عن اختراعه لآلة تسمى بالجوهرية بالاشتراك مع الدكتور عبداللطيف جوهر، وكنت من قبل قد سألت الموسيقار «نزار إسماعيل» الذى كان مقربا من العالم الموسيقى «جوهرى» عن مصير «الجوهرية» فأكد لى أنه لا يعرف مصير هذه الآلة المخترعة، وأنه – بكل أسف- قد نهبت شقة الدكتور الجوهرى بعد وفاته ولم يجد فيها أحد شيئا من تراثه الموسيقى، لكنه أهدانى صورة نادرة للدكتور عبداللطيف الجوهرى ننشرها هنا وله كل الشكر.
اسم-بيكار-بالحفل-قبل-أن-يصبح-بيكار
المعلومات التى أتيحت لنا عن هاتين الآلتين جاءت من فيلم تسجيلى نادر عن حياة بيكار من إنتاج «أرت سنتر» وبعنوان «صور شخصية» من سيناريو الكاتب راجى عنايت ومن إخراج محمد فاضل.
وفيه يتحدث عن حياته فى الفن التشكيلى والموسيقى، ولكنك تلحظ مدى توغل الموسيقى فى حياته حينما ترى الوقت الذى تكلم فيه عن الموسيقى والآلات الموسيقية وكم من الوقت تكلم عن الفن التشكيلى، وقد حمل هذا الفيلم النادر إجابة على سؤال ظل يشغل ذهنى كثيرا عن بيكار، ولا أبالغ إذا قلت إن هذا السؤال سيمثل كشفا فنيا جديدا وسيستطيع أن يعيد الضوء إلى العديد من لوحات بيكار المنسية أو المجهولة، كما سيؤكد بما لا يدع مجالا للشك تزييف بعضها الآخر، لكنى سأتحدث عن هذا الأمر لاحقا.
توقيع-صبري-مؤرخا-ب-1934
يقول بيكار فى البرنامج مقدما آلته الجديدة: «هذه آلة جديدة ابتكرناها اسمها «الطمبورينا» وهى هجين من آلتى العود والطمبور «واخدة بعض قصعة الطمبور ورقبة العود لكن أطول قليلا، لتمنحنا إمكانيات الآلتين»، ثم بدأ بيكار فى عزف بعض من التقاسيم الشرقية الاحترافية على هذه الآلة، وبعد أن ينتهى من العزف القصير يقول وهو فى غاية الأسى «برضه مش ده، فيه حاجة غلط فى الآلة لأن صوتها برغم كل المحاولات اللى عملناها برضه صوت معدنى» ويستطرد بيكار قائلا: «ويظهر أن العيب من القصعة ولذلك فإن الدكتور جوهر مسميها الحلة» وهنا تنتقل الصورة إلى الدكتور «جوهر» الذى يعزف على آلة جديدة أيضا فيقول: «من زمن ونحن مشغولون بصنع آلة تكون من فصيلة العود لكى نطور من آلة العود التقليدية وأسميناها الجوهرية وتمكنا هذه الآلة من عزف ثلاث أوكتافات كاملة من قرار الدو – أى الطبقة الغليظة- وحتى جواب جواب الدو- أى حتى الطبقة الحادة جدا- وتتميز بأن يدها طويلة- يقصد رقبتها- أطول من آلة العود ونتيجة لطول اليد تمنحنا سهولة أكبر فى انتقال موضع اليد وتغيير نوعية الصوت، وقد أجرى بيكار عدة تعديلات منها أنه أزاد فى عمق القصعة وقطرها أقل وفى الحقيقة طلعت صوت جميل لكنه معدنى، لكن مع ذلك فإن لها قيمتها لأنها تتفق مع الآلات التى دخلت إلى التخت العربى الآن مثل الأورج والجيتار الكهربائى».
وائل-السمري-مع-عود-بيكار
انتهى كلام الدكتور عبداللطيف جوهر، عن آلته الجديدة «الجوهرية»، وإذا ما تأملنا ما الذى فعله الثنالئى «جوهر- بيكار» من خلال حديثهما سنستطيع أن نتوصل إلى فكرة «الجوهرية» التى ظهر صوتها الجميل ذو الشخصية فى هذا الفيلم المبهر الذى يستحق كل من المخرج محمد فاضل والسيناريست راجى عنايت كل الشكر عليه، ففكرة الجوهرية تتلخص فى أن الثنائى «جوهر وبيكار» طورا من شكل العود المصرى العادى بأن جعلا رقبته أكبر من المعتاد حتى يصل العازف إلى نغمة جواب الدو، دون الاضطرار إلى العزف داخل وجه العود، كما يفعل العازفون المحترفون، كما أنهما غيرا من نوعية أوتار العود وجعلاها «معدنية» لتعطى لنا صوتا هو مزيج من عدة آلات مثل العود والبزق والقانون، وتجدر هنا الإشارة إلى أن ما فعلاه فى هذه الآلة شبيه بما فعله اللبنانى «جورج بيروتى» فى الآلة التى أطلق عليها اسم «الجوزيتا» والتى احتفظ بنسخة نادرة منها، غير أن بيروتى جعل الصندوق الصوتى للجوزيتا مسطحا، كما لم يحتفظ بالشكل الدائرى أو البيضاوى المميز للآلات الشرقية وجعل الصندوق الصوتى على شكل سداسى غير منتظم عبارة عن شكل مثلث من أعلى، ثم شكل شبه منحرف متساوى الساقين من الأسفل، لتشبه فى النهاية شكل آلة البلالايكا الروسية.
بعد زيارتى للجامعة الأمريكية تأكدت للأسف من أن هذا الفيلم الذى صنعه فاضل وعنايت ربما يكون كل ما لدينا عن آلة «الجوهرية»، لكن هنا يجب أن نسأل: متى تم هذا الفيلم وما عمر هذا الاختراع؟ الإجابة للأسف لم أجدها فى تتر الفيلم فتوجهت إلى المخرج الكبير محمد فاضل لأسأله عن تاريخ صناعة هذا الفيلم الذى ظهرت فيه الآلتان، فأكد لى أن هذا الفيلم صنع فى عام 1972 ضمن سلسلة أفلام عن شخصيات فنية وثقافية، وأن هذا الفيلم حصل على خمس جوائز وقت عرضه، فقد صنعه مع فيلم عن صلاح جاهين وتم عرض الفيلمين وقتها، وكان من المفترض أن يكون هناك فيلم آخر عن بليغ حمدى لكنه لم ير النور حتى وقتنا هذا لأنه تعطل فى المونتاج من هذا الزمن، لكن من حسن الحظ فقد احتفظت شركة «أرت سنتر» التى أنتجت الفيلم بمادته الخام، وقد أكد لى «فاضل» إمكانية ظهور هذا الفيلم بعد حوالى 47 عاما من تصويره، قائلا: كويس إنك فكرتنى بيه عشان أبدأ اشتغل عليه تانى.
ولا تتوقف أهمية هذا الفيلم عند حد استئثاره بعرض مجهودات بيكار وجوهر التطويرية لآلة العود واختراعهما لآلتى الطمبورينا والجوهرية، بل تمتد المفاجآت إلى أبعد من هذا بكثير، فقد جاوب هذا الفيلم على السؤال الذى حير جميع المهتمين بسيرة حسين بيكار ومسيرته، وحمل الفيلم إجابة جزئية على هذا السؤال الذى فجرته الكاتبة فوزية الأشعل فى كتابها عن بيكار ولم يجب عنه، فقد قالت الكاتبة فى الكتاب الذى أنتجته وزارة الثقافة فى 2006، إن بيكار لم يكن بهذا الاسم أصلا، وأنه نشأ وتعلم واحترف هو باسم «حسين إبراهيم أمين» وتصف الكاتبة على لسان بيكار هذا التحول (ص24-25) بالقول «اسمى حسين إبراهيم أمين، هكذا تقول الأوراق الرسمية، بعد وفاة أبى أخذت أقلب فى أوراقه، أبحث عن تاريخ لزمنى الذى يعود إلى جذور تركية، كنت أبحث ولا أدرى عن أى شىء أبحث، وعرفت فى نهاية الأمر أننى كنت أبحث عن «بيكار» أحسست أننى عثرت على كنز وهذه حقيقة، فهناك فرق بين حسين أمين إبراهيم وهو الاسم المدون فى شهادة ميلادى، وبين كلمة بيكار، وهى التوقيع الذى اختاره جدى لى برفضه الزواج بعد وفاة جدتى.
هكذا يحكى بيكار ويفاجئنا، صادما كثيرين من عشاق فنه الذين لم يتخيلوا أن بيكار لم يكن يعلم أنه «بيكار»، لكن السؤال هنا هو متى عرف بيكار أن اسمه بيكار، أو بمعنى أصح، متى توفى أبوبيكار فحدثت هذه الواقعة؟ هنا ينبغى أن نشير إلى أن مسألة كهذى فى غاية الأهمية، لأن لها دورا كبيرا فى توثيق حياة الفنان من ناحية، وإثبات أصالة بعض اللوحات إليه من ناحية أخرى، فقد ولد بيكار فى 1913 والتحق بكلية الفنون الجميلة سنة 1928 وتخرج سنة 1933، فهل كان اسمه وقتها حسين أمين إبراهيم؟ أم بيكار؟ وهل سنوات عمله فيما بعد حملت اسمه الرسمى أو الاسم المهدى إليه من جده؟
جزء من الإجابة عن هذه الأسئلة يمنحنا إياها هذا الفيلم المدهش الذى استعرض بعضا من وثائق التاريخ الموسيقى لبيكار، فظهرت دعوة لإحدى الحفلات التى أحياها بيكار فى 27 فبراير 1936 كان اسمه بها «الفنان حسين أمين إبراهيم أفندى» من هنا ندرك على الأقل أن بيكار احتفظ باسم الرسمى حتى 1936 أى بعد تخرجه بثلاث سنوات وربما أكثر، وعلى حد قول الفنان جمال السجينى فى ذات الفيلم، فقد كان الجميع يتنبأ لبيكار مستقبلا كبيرا منذ بدايته، بل كان الجميع ينظر إليه وقتها، كما لو كان أحد فنانى عصر النهضة، فمن المؤكد أن هناك العديد من اللوحات التى أبدعها بيكار فى تلك السنين، ومن المؤكد أيضا أن توقيعها لم يكن باسم «بيكار» لأنه لم يكن يعرف هذا الاسم بعد، فى الغالب فإن بيكار كان يوقع باسم «حسين أمين» أو «حسين أمين إبراهيم»، وهو ما يسوقنا إلى مسألة جدلية أخرى، تحتاج إلى بحث مستفيض ودراسة منفصلة، لأنه إذا ما صحت فرضية أن بيكار كان يوقع باسم حسين أمين أو «حسين» أو «أمين» أو «حسين أمين إبراهيم»، فربما يكون هناك التباس وقع فى نسبة بعض أعماله إلى فنان كبير آخر هو الفنان «حسين يوسف أمين» أحد أكبر رواد الفن التشكيلى فى مصر، وأحد أهم أساتذة الفن كذلك، وهو أمر يتطلب، كما ذكرنا، بحثا مستقلا على أيدى خبراء الفنون والخطوط لدراسة اللوحات الموقعة بتلك الصيغ مرة أخرى، واكتشف الفروق بين الخطوط، واستخدامات الألوان وطبيعة الفرشاة، والأسلوب المميز لكل فنان، والفرق بينه والآخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة