فى طريق عودته إلى بلاده من أمريكا، توقف فى القاهرة الدكتور محمد مصدق، رئيس وزراء إيران، فى زيارة رسمية لمصر بدأت يوم 20 نوفمبر -مثل هذا اليوم - عام 1951، بدعوة من مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية، حسبما يذكر الدكتور سعيد الصباغ فى كتابه «العلاقة بين القاهرة وطهران، تنافس أم تعاون؟».
كان «مصدق»رئيسا لوزراء إيران من 19 إبريل عام 1951، و«أصبح تجسيدا لطموحات الشعب الإيرانى، ورمز اعتزاز الأمة بنفسها»، بوصف الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه»مدافع آيات الله»،وذلك بسبب قراره التاريخى بتأميم بترول إيران الذى أصدرت حكومته قرارا بشأنه يوم 30 إبريل 1951، وجاءت دعوته لزيارة مصر بعد قرار النحاس باشا بإلغاء معاهدة 1936 أمام البرلمان فى أكتوبر 1951، وهى المعاهدة التى وقعها مع بريطانيا يوم 26 أغسطس 1936، واعتبرها حزب الوفد وحكومته «نصرا مبينا»، فى حين وجدت فيها المعارضة «معاهدة تحالف بين الدولتين»، وأن مصر لا تستطيع أن تتخذ خطة تخالف سياسة إنجلترا، وفقا لرأى الدكتور محمد حسين هيكل باشا، زعيم حزب الأحرار الدستوريين، ورئيس مجلس الشيوخ، فى الجزء الأول من مذكراته.
أحدث قرار «مصدق»بتأميم بترول إيران، وقرار النحاس بإلغاء معاهدة 1936 تفاعلات شعبية مؤيدة فى البلدين، لكنها أدت إلى مواجهات مفتوحة مع بريطانيا، ففى مصر «كانت تواجه تصعيدا للعمليات الفدائية فى مدن القناة من ناحية، وقمعا مفرطا لها من ناحية أخرى، والصحف تنشر وقائع وصور شهداء هذا العمليات بشكل يومى، حسبما يذكر سعيد الصباغ..وفى إيران دبرت المخابرات الأمريكية معها خطة التخلص من «مصدق»بالانقلاب عليه يوم 22 أغسطس 1953،ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى توفى وحيدا بين جدران البيت عام 1967، يذكر محمد حسنين هيكل فى «مدافع آيات الله»، أنه بعد قرار تأميم البترول: «قامت الحكومة البريطانية التى تسيطر على شركة البترول «الأنجلوإيرانية»، برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إيران،وقبلها توقفت عن دفع التزاماتها للخزانة الإيرانية، مما أدى إلى عدم صرف رواتب العديد من موظفى الحكومة، وتصاعد الموقف بعد ذلك حتى توقفت الشركة عن تكرير البترول»، يصف هيكل شخصية مصدق فى هذه الآونة قائلا: «كان خليطا غريبا كزعيم سياسى، فرغم أنه بلغ السبعين إلا أنه كان خطيبا مفوها يجيد تحريك العواطف، ومثقلا بكل أحزان الشيعة»، يتذكر هيكل، أنه حضر عدة مناقشات فى البرلمان الإيرانى وقتئذ وشاهد وسمع مصدق خطيبا.. يؤكد: «أصبحت خصائص أسلوبه فى الخطابة مألوفة لدى، فعادة ما كان يبدأ بالتحدث إلى النواب عن آلام الشعب الإيرانى، إلى أن يتملكه التأثر من بلاغته شخصيا فينفجر باكيا، ثم يتحول البكاء إلى نوبة سعال، ثم ينهار تماما، فيندفع إليه النواب، يقدمون إليه أكواب الماء والكولونيا، والمنعشات ليشمها، وبعد قليل ينجحون فى إعادته للوقوف على قدميه، ويشرع فى مواصلة خطبته، ليغلبه التأثر بنفس الطريقة مرة أخرى بعد خمس دقائق، كان الجميع يتعجبون من صدق عواطفه، وكان مخلصا للغاية، وبحلول عام 1950 أصبح تجسيدا لطموحات الشعب الإيرانى، لكنه كان فاشلا من وجهة النظر العملية كسياسى، إذ لم يكن لديه فكرة قط عن التنظيم والإدارة».
هكذا كان الحال فى مصر وإيران وقت الزيارة التى استمرت أربعة أيام، وهكذا كان «مصدق» فى خط المواجهة ضد بريطانيا، كما كانت القوى الوطنية المصرية على نفس الخط، ولهذا فإن الاستقبال الشعبى للزعيم الإيرانى فى القاهرة بدأ رسالة إلى من يعنيه الأمر.
تصف جريدة الأهرام فى عددها 21 نوفمبر 1951 هذا الاستقبال بقولها: «خرجت القاهرة عن بكرة أبيها لاستقبال البطل العظيم الدكتور مصدق..انتظم الشعب كله فى مواكب تهتف بحياة البطل الجبار قاهر الاستعمار وزعيم المجاهدين الأحرار».. تضيف: «مطار فاروق كان مقصد آلاف عديدة من مختلف هيئات الشعب وطبقاته..وقال مصدق لمندوب الأهرام: «إن إيران تؤيد مصر تأييدا كاملا، فمصر وإيران مصابتان بداء واحد وعلاج الداء واحد، ويجب أن يكافح البلدان فى سبيل استقلالهما حتى ينالا الاستقلال التام».
وجد المثقفون والكتاب المصريون فى زيارة مصدق فرصة للتعبير عما يكنونه من تقدير للرجل الذى يمثل فى إيران الشقيقة روح الجهاد، واعتبروها علامة على «وثبة الشرق»، وفقا لما يذكره «الصباغ»، مضيفا: «راحوا يؤكدون أنه كما أن بترول «عبدان» من حق حكومة إيران، فإن قناة السويس من حق المصريين وفى صميم أملاكهم، رغم كل عدوان أو طغيان، وعلى هذه الآمال وعلى هذه الآلام تجتمع مصر وإيران، وسوف تؤيد كل منهما الأخرى على مر الأيام، كان من نتائج هذه الزيارة اعتراف إيران رسميا بلقب الملك فاروق الجديد «ملك مصر والسودان»، بتاريخ 10 ديسمبر 1951، وكانت هى أول دولة تعترف بهذا اللقب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة