تعد ظاهرة غسيل الأموال من المحظورات القانونية، حيث إن هناك إجماعا دوليا على تحريم هذه الظاهرة ووجوب مكافحتها بشتى الوسائل، الأمر الذي دفع القائمين على غسيل المال إلى استخدام وسائل متطورة وتقنيات عالية للتمويه والتعتيم والتضليل عبر شبكة معقدة من الترتيبات والإجراءات، وعلى درجة عالية من السرية يصعب اكتشافها.
جريمة غسيل الأموال من الجرائم المستحدثة التى يتزايد حجمها يوماَ تلو الآخر على الرغم من الجهود المبذولة من الناحية المحلية والإقليمية والدولية التى تبذل لمواجهتها، حيث إن عناصر تلك الجريمة غالبا ما تتوزع على أكثر من دولة، فقد اتخذت الطابع الدولى، مما أدى إلى استفحال خطرها وازداد شرها، وأصبحت تنسج خيوطها الإجرامية حول عنق الاقتصاد العالمى، لذلك فقد تزايدت قناعة المجتمع الدولى بضرورة زيادة تنسيق الجهود الدولية لمواجهة هذه العصابات الإجرامية.
علاقة غسيل الأموال بتجارة السلاح والمخدرات والبغاء
ومما لا شك فيه أن استخدام التقنية الحديثة فى جرائم غسيل الأموال أصبح شديدة الخطورة، وذلك لارتباط عمليات غسيل الأموال بكافة أشكال الجريمة المنظمة وأخصها تجارة السلاح وتجارة المخدرات وتجارة البغاء بالإضافة إلى ارتباط جرائم غسيل الأموال بدعم التنظيمات الإرهابية بصورة مباشرة، كما أنها باتت تهدد الاستقرار الاقتصادى على مستوى العالم وهى ترتبط بأنشطة غير مشروعة وعمليات مشبوهة يتحقق منها دخول طائلة تؤثر سلبا على الاقتصاد المحلى والعالمي.
فى التقرير التالى، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية استخدام وسائل التقنية فى جرائم غسيل الأموال يستوجب مكافحة تشريعية جنائية واقتصادية باعتبار جريمة عمليات غسيل الأموال تشمل مجموعة الانشطة التى تتم بعيداَ عن أجهزة الدولة، ولا تسجل فى حسابات الدخل القومى وهذه الأنشطة تمثل مصدراَ للأموال القذرة التى يحاول أصحابها غسيلها فى مرحلة تالية، وذلك بإجراء مجموعة من العمليات والتحويلات المالية والعينية على الأموال القذرة لتغيير صفتها غير المشروعة فى النظام الشرعى واكسابها صفة الشرعية – بحسب الخبير القانونى والمحامى محمد الشهير.
فى البداية يجب أن نعلم أن جريمة غسيل الأموال لا تختلف كثيراَ عن الجريمة الإلكترونية فهما وجهان لعملة واحدة، وتعتبر ظاهرة غسيل الأموال قديمة، فقد ارتبطت بعمليات القرصنة البحرية وفى العصور الوسطى فى أوربا حيث انتشرت القروض الربوية بشكل كبير جداَ والتى كانت الكنيسة الكاثوليكية تحرمها واعتبرتها من الجرائم، فلجأ من يتعاملون بها لإخفائها وإظهارها بطرق أخرى، أما حديثاَ فبازدياد جرائم المخدرات والجرائم الأخرى من الاتجار بالبشر وتجارة السلاح وغيرها الكثير فقد انتشرت ظاهرة غسيل الأموال كثيراَ بهدف إخفاء مصادر هذه الأموال غير المشروعة.
الحقيقة فإن جرائم غسيل الأموال ليست جرائم أولية وإنما هى فى حقيقة الأمر جريمة تابعة، وهى من أكثر الجرائم تتطوراً وارتباطا بالتقنية الحديثة، ففى الماضى كان الأمر يقتصر على إنشاء مشروع وهمى وضخ العوائد الغير مشروعة بصورة منتظمة، وكانت هناك دلالات يمكن استنباط قرينة غسيل الأموال منها مثل انتظام الشركات حديثة النشأة فى كافة تعاملاتها الضريبية ونموذجية حساباتها، وعدم تناسب دخل المشروع مع طبيعة إنتاجه، أو استمرار العمل بالمشروع رغم تحقيقه لخسائر مطردة، بالإضافة إلى رصد المضاربات غير الطبيعية فى البورصات أو التوسع المفاجئ فى شراء العقارات غير المسجلة – وفقا لـ"الشهير".
الشيك الإلكترونى وجريمة غسيل الأموال
أما الآن فى القوت الراهن فقد ساهمت التقنية الحديثة فى تعقيد طرق غسيل الأموال حيث صار من السهل إجراء مئات العمليات المصرفية وتحويل الأموال فى دقائق معدودة مما يصعب رصد حركة هذه الأموال، كما ساهمت مواقع "الإنترنت العميق" فى تبييض وتسهيل حركة الأموال غير المشروعة، ومن أمثلة التطور التقنى ظهور "الشيك الإلكترونى" الذى شاع استخدامه فى عمليات غسيل الأموال، وهو مماثل للشيك العادى ولكن يتم تداوله عن طريق الوسائط الإليكترونية فقط.
معنى أن جريمة غسيل الأموال جريمة تابعة وليست أولية؟
وجريمة غسيل الأموال هى محاولة إظهار مصدر مشروع لأموال متحصلة بطريق غير مشروع، بمعنى أنه لكى تنشأ جريمة غسيل الأموال، فلا بد من وجود جريمة أولية ـ وهى الجريمة الذى تولد عنها المال الغير مشروع ـ وبعد ذلك تتبعها جريمة غسيل وتبييض هذا المال وإظهاره على أنه متولد من مصدر مشروع.
علاقة غسيل الأموال بالتجارة الدولية للبغاء والإرهاب
وللتوضيح يمكن النظر فى التجارة الدولية للدعارة التى تعتمد على استثمار الناتج المتحصل من أعمال الدعارة فى إنشاء بعض المشروعات السياحية كواجهة لستر الأرباح غير المشروعة، ففى هذا المثال هناك جريمة أولية هى تسهيل وإدارة الدعارة، ثم جريمة تابعة هى تبييض الأموال المتحصلة من الجريمة الأولى، كذلك فإن الجرائم الإرهابية يتم تمويلها من خلال الأرباح المتحصلة عن تجارة المخدرات والسلاح، حيث يتم ضخ عوائد هذه التجارة الممنوعة فى صورة استثمارات عقارية وتجارية ثم تخصيص جزء من أرباح هذا لاستثمار لتمويل عمليات الإرهاب التى تغتال خيرة شباب الوطن، فجريمة غسيل الأموال دائماً ما تكون الجريمة الثانية، وفى ذات الوقت قد يتبعها جريمة أخرى أو تكون هى الخاتمة للمشروع الإجرامى – الكلام لـ"الشهير".
كيف تواجه التشريعات جريمة غسيل الأموال؟
الدول العربية كثيرا ما اتجهت إلى تغليظ العقوبة فى جرائم غسيل الأموال وتوسيع دائرة التعريف لهذه الجرائم، لأنها من الجرائم الماسة بالأمن والاقتصاد القوميين، ويكفى أن نعلم أن حجم عمليات غسيل الأموال من عشر سنوات مضت بلغ 500 مليار دولار، والرقم يتضاعف باستمرار، لذلك فإن تشريعات حظر ومكافحة غسيل الأموال نصت على عدة صور لهذه الجريمة منها حظر إجراء أية عمليات تتعلق بعائد نشاط إجرامى أو اكتساب أو تلقى هذا العائد، وحظر إخفاء طبيعة عائد النشاط الإجرامى أو مصدره أو مكانه أو طريقة التصرف فيه أو حركته أو ملكيته أو أى حق يتعلق به، وكذلك حظر الاحتفاظ بعائد متحصل من نشاط إجرامى أو حيازته.
التشريعات العربية فى مواجهة غسيل الأموال
غالبية التشريعات العربية – بحسب "الشهير" - مثل التشريع المصرى أو الإماراتى أو الأردنى أو البحرينى اعتبرت شريكاً فى الجريمة ـ بصورة خاصة ـ كل من أتلف أو أختلس أو أخفى أو زور مستنداً من شأنه تسهيل كشف جريمة غسيل الاموال أو مرتكبيها، وكل من علم بقصد الجانى وقدم إليه تسهيلات أو معلومات تساعده على إخفاء جريمته أو تمكنه من الهرب، وذلك بالإضافة إلى تطبيق القواعد العامة فى الاشتراك والمساهمة الجنائية.
حجب معلومات عن غسيل الأموال
وبجانب كل ذلك تم أيضاً تقنين الجرائم المرتبطة بجـريمة غسيـل الأمـوال مثل جريمة حجب معلومات متوفرة عن جريمة غسيل اموال سواء كانت هذه المعلومات قد وصلت للشخص من واقع مهنته أو نشاطه أو أعماله أو وظيفته أو بأى طريق آخر، وجريمة الامتناع أو إعاقة أو اعتراض تنفيذ أى قرار تصدره الجهات المنفذة لقوانين مكافحة غسيل الأموال أو أى أمر تستصدره من قاضى التحقيق بشأن إجراءات التحقيق فى جريمة من جرائم غسيل الأموال، وجريمة الإفشاء عن معلومات متعلقة بالتحقيق فى جريمة غسيل أموال، وبالإضافة إلى ما سبق فإن تعديلات التشريعات الاقتصادية والتجارية أوجدت بعداً جديداً لمكافحة غسيل الأموال من خلال تشديد ضوابط الحكومة والمسائلة الضريبية والمهنية، والربط الإليكترونى العالمى للعمليات البنكية.
أبرز صور الجرائم الإلكترونية المرتبطة بجريمة غسيل الأموال
استخدام الإنترنت – وفقا لـ"الشهير" - فى عملية غسيل الأموال له أوجه عديدة منها شراء الذهب والمجوهرات عن طريق بطاقات الائتمان آجلة الدفع، ثم سداد الفاتورة من خلال عائد الأنشطة الإجرامية، وكذلك توجد جرائم اختراق الحسابات البنكية التى يتم من خلالها الاستيلاء على أرصدة العملاء ثم إعادة استخدام هذه الأموال المتحصلة عن الجريمة فى المشاركة فى مشروعات تجارية أو شراء أسهم بالبورصة، فضلاَ عن أن بعض من شركات التداول عن طريق الإنترنت تم اكتشاف ضلوعها فى عمليات غسيل أموال ما بين دول شرق آسيا ودول الاتحاد الأوروبى، كما أن بعض هذه الشركات تم استخدامها لسرقة أكواد البطاقات الائتمانية لمن يتعاملون معها والاستيلاء على أرصدتهم دون إذن مسبق ثم المضاربة بها فى تجارة العملات المسماة بالفوركس.
كما أن هناك وجها آخر لغسيل الأموال عن طريق البطاقات الذكية مثل تقنية (Mondex) التى استخدمتها عصابات الجريمة المنظمة فى تحويل الأموال الغير مشروعة مع تشفير عملية التحويل عبر الإنترنت بما يستحيل معه معرفة مضمون العملية التى تولدت عنها الأموال المحولة، والخلاصة أن جرائم غسيل الأموال هى مجال المبارزة بين العقلية الابتكارية للمجرمين والعقلية الوقائية لجهاز الأمن، فمع إزياد التقدم العلمى تتقدم وسائل إخفاء مصادر الأموال من جهة، وتتقدم وسائل المكافحة من جهة أخرى.
عقوبة جريمة غسيل الأموال حال بجناية
عملية غسيل الأموال تنقسم إلى شقين الأول أن يكون غسيل الأموال فى قضايا المخدرات أو القتل أو الاستيلاء على المال العام فهذه تعتبر من قضايا الجنايات وعقوبتها تصل إلى السجن المشدد 15 عاما، أما إذا تعلق أمر الغسيل بالإضرار بالأمن القومى وإلحاق الضرر بالأمن العام وسلامة المواطنين فتصل عقوبته للإعدام.
قانون مكافحة غسيل الأموال رقم 80 لسنة 2002
عقوبة جريمة غسيل الأموال فى القانون حيث نصت المادة (14) من قانون مكافحة غسيل الأموال رقم ٨٠ لسنة ٢٠٠٢، على السجن مدة لا تجاوز سبع سنوات وبغرامة تعادل مثلى الأموال محل الجريمة، كل من ارتكب أو شرع فى ارتكاب جريمة غسيل الأموال المنصوص عليها فى المادة " 2 " من هذا القانون، ويحكم فى جميع الأحوال بمصادرة الأموال المضبوطة، أو بغرامة إضافية تعادل قيمتها فى حالة تعذر ضبطها أو فى حالة التصرف فيها إلى الغير حسن النية.
وحددت مادة " 2 " من القانون جرائم غسيل الأموال، وقالت، يحظر غسيل الاموال المتحصلة من جرائم زراعة وتصنيع النباتات والجواهر والمواد المخدرة وجلبها وتصديرها والاتجار فيها، وجرائم اختطاف وسائل النقل واحتجاز الاشخاص، والجرائم التى يكون الارهاب – بالتعريف الوارد فى المادة 86 من قانون العقوبات – أو تمويله من بين اغراضها ووسائل تنفيذها، وجرائم استيراد الأسلحة والذخائر والمفرقعات والاتجار فيها وصنعها بغير ترخيص، والجرائم المنصوص عليها فى الأبواب الأول والثانى والثالث والرابع والخامس عشر والسادس عشر من الكتاب الثانى من قانون العقوبات، وجرائم سرقة الاموال واغتصابها، وجرائم الفجور والدعارة، والجرائم الواقعة على الاثار، والجرائم البيئية المتعلقة بالمواد والنفايات الخطرة، والجرائم المنظمة التى يشار اليها فى الاتفاقيات الدولية التى تكون مصر طرفاً فيها، وذلك كله سواء وقعت جريمة غسيل الاموال أو الجرائم المذكورة فى الداخل أو الخارج بشرط أن يكون معاقباً عليها فى كلا القانونين المصرى والأجنبى.
وختاماً، فإن مساندة تشديد قوانين وضوابط مكافحة غسيل الاموال هو واجب وطنى على كل فرد حتى وإن أثر ذلك على الحريات الشخصية، فالدولة تخوض حرباً ضد الإرهاب وتعمل على تجفيف منابعه ووقف تمويله من خلال كشف الأنشطة الإجرامية التى تنشأ عنها الأموال التى يعاد تبييضها، وأن المعارضة للقرارات المتعلقة بمكافحة هذه الجرائم يحدث شرخاً فى جدار المواجهة مع المخربين وأعداء الوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة