كان المفكر والسياسى الشيوعى «تروتسكى» فى حجرة مكتبه فى منزله بالعاصمة المكسيكية مكسيكو، وبعد أن تصفح الصفحة الأولى من مقال أعده للنشر، فوجئ بضربة رهيبة على رأسه، حسب كتاب «النبى المنبوذ.. تروتسكى 1929 - 1940»، تأليف إسحق دوينشز، ترجمة كميل قيصر داغر، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت».
كانت الضربة بمعول خبأه القاتل، ونزلت على جمجمة «تروتسكى» يوم 20 أغسطس 1940، وأدت إلى موته فى اليوم التالى «21 أغسطس»، مثل هذا اليوم، وهو المولود عام 1879 فى قرية أوكرانية، وترك أثرًا عميقًا على الفكر الماركسى بنظريته «الثورة الدائمة»، التى يؤمن بها ماركسيون، ويتخذونها محورًا لتحركهم الفكرى والسياسى عبر تنظيماتهم «التروتسكية»، كما أنه أحد القيادات الأساسيين للانتفاضة المسلحة فى روسيا أكتوبر 1917، التى انتهت بانتصار الثورة البلشفية، وبعد انتصار الثورة أسس الجيش الأحمر، وقاده إلى الانتصارات على جيوش أوروبا الغازية لروسيا عام 1920.
وحسب دراسة بعنوان «ليون تروتسكى.. النظرية والممارسة» كتبها إيسم كونارار، ترجمة أشرف عمر، عن «مركز الدراسات الاشتراكية»، فإنه فى يناير 1928 وبأمر من الزعيم السوفيتى «ستالين» تم ترحيل «تروتسكى» إلى «ألما آتا» فى أقصى شرق روسيا، ثم ترحيله إلى تركيا، حيث مكث هناك فى جزيرة تدعى «برينكيبو»، وقضى فيها أكثر من أربعة أعوام رغمًا عن إرادته، ولم يرغب أى بلد فى استضافته لأنه بدا فى أعين الحكومات كمخرب، واستطاع بعض من مؤيديه أن يحصلوا على جواز إقامة له فى فرنسا ومن ثم النرويج، وقرر مغادرة النرويج بعد منعه من التحريض ضد «ستالين»، واعتداءاته المستمرة، ومع نهاية 1936 نجح الفنان المكسيكى دييجو ريفيرا فى إقناع حكومة بلاده لقبول لجوء «تروتسكى» ، وعاش فيها حتى جاءت لحظة نهايته.
لم يكن نفيه هو السبيل الوحيد لعقابه، وإنما قام «ستالين» بتدمير كل أفراد أسرته، ووفقًا لـ«كونارار»: «دمر كل أفراد عائلته.. إحدى بناته توفيت بعد صراع مع مرض السل، وذلك بعد طردها من الحزب الشيوعى ومنعها من العمل، أما ابنته الأخرى زينا، فقد اقتيدت للانتحار بعد أن تم إرسال زوجها وزوج أختها للعمل العبودى فى معسكرات سيبيريا، واعتقلته الشرطة السرية الستالينية فى عام 1938، واعتقل أصغر أبنائه عام 1934 رغم تجنبه العمل فى السياسة، وأرسل بعد ذلك لمعسكرات العمل، أما زوجة تروتسكى الأولى، ألكساندرا، فتم طردها خارج مدينة ليننجراد عام 1936، ثم أعدمت رميًا بالرصاص فى 1938».
يصف «دوينشز» مؤلف «النبى المنبوذ» دراما عملية الاغتيال، مشيرًا إلى أن منفذها هو عميل زرعته أجهزة «ستالين» له، واسمه «جاكسون».. يقول «دوينشز» إن «جاكسون» كان يعتقد أنه بنتيجة تلك الضربة الهائلة ستموت ضحيته دون صرخة، وأنه سيخرج ويختفى قبل أن تكتشف الجريمة، لكن خلافًا لذلك، أطلق الضحية صرخة حادة ورهيبة، قال القاتل: تلك الصرخة سأسمعها طيلة حياتى.. قفز تروتسكى وجمجمته مهشمة، ووجهه مضرج بالدم، وقذف نحو القاتل كل ما وقع تحت يديه، الكتب والمحبرة وحتى الديكتافون، ثم انقض عليه، كل ذلك لم يأخذ ثلاث دقائق أو أربع، جعلت الصيحة الثاقبة والممزقة «ناتاليا»، زوجة «تروتسكى»، والحرس يقفزون من أمكنتهم، لكن مرت لحظات قبل أن يدركوا من أين انبعثت، ويهرعوا فى ذلك الاتجاه، خلال تلك اللحظات درات رحى صراع صاخب فى حجرة العمل، آخر صراع انخرط به «تروتسكى»، قاتل كنمر، وتماسك مع القاتل، عضه بيده وانتزع منه المعول وقد تبلبل القاتل إلى حد أنه لم يستخدم مسدسه أوخنجره.
يضيف «دوينشز»: «لم يعد فى وسع تروتسكى أن يبقى واقفًا، وفى حين كان يجمع كل إرادته كى لا ينهار عند قدمى عدوه، تراجع ببطء وهو يترنح، وحين اندفعت ناتاليا إلى الغرفة وجدته واقفًا على عتبة الباب بين قاعة الطعام والشرفة، مستندًا إلى إطار الباب.. تهاوى ببطء على الأرض.. ركعت ناتاليا وهانسن، سكرتيره، إلى جانبيه، الواحد بمواجهة الآخر، واستدار نحو هانسن وكلمه بالإنجليزية: إنها النهاية».
كان القاتل مازال فى حجرة المكتب، وقبض الحراس عليه، وحسب «دوينشز»: «كانوا يضربونه بأعقاب المسدسات»، ومن خارج الغرفة كان «تروتسكى» يبعث بأنينه ويبذل جهدًا للتلفظ بكلماته: «قولا لهم ألا يقتلوه، لا ينبغى قتله، ينبغى تركه يتكلم».. نقلوه إلى المستشفى، وفى المساء ذاته حوالى الساعة السابعة والنصف فقد وعيه كليًا وصارع الموت أكثر من 22 ساعة، وفى 21 أغسطس «مثل هذا اليوم» فى الساعة السابعة و25 دقيقة مساء أظهر التشريح دماغًا خارق الحجم يزن 1560 جرامًا، وكان قلبه أيضًا بالغ الضخامة، وفى 22 أغسطس سار موكب جنائزى مهيب خلف النعش عبر شوارع العاصمة مكسيكو.
قضى القاتل 20 عامًا فى السجن بالمكسيك، وهى أقصى ما يسمح به قانون البلد، وعند مغادرته السجن عام 1960 ذهب إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم إلى موسكو، واعتبر بطلًا للاتحاد السوفيتى، ونال وسام «لينين»، ودفن فى موسكو 1978.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة